قام ستة من علماء الاجتماع والنفس، معظمهم ألمان، يمثلون عدداً من مؤسسات البحوث الطبية بمراجعة شاملة للبحوث العلمية الكمية الكثيرة التي تقصّت الحياة العقلية في المدن والقرى في عدد من بلدان آسيا وأميركا اللاتينية، وألمانيا.
تفيد المراجعة أن أكثر من خمسين في المائة من سكان العالم يعيشون اليوم في المدن، وأن هذه النسبة سترتفع إلى سبعين في المائة بحلول سنة 2050، وان خمسين في المائة منهم سيعيشون في مدن لا يقل عدد سكان الواحدة منها عن خمسمائة ألف نسمة.
وحسب المراجعة فإن الناس في المدن يتعرضون إلى عوامل كثيرة ضارة بصحتهم العقلية كما سنرى.
نعم، تقول المراجعة: توفر المدن لساكنيها – إجمالاً – فرص رعاية صحية، وتوظيف أو عمل وتعليم، أفضل لسكانها من القرى أو الأرياف، لكن الحياة في المدن، تزيد من احتمال إصابة المرء بأحد الأمراض العقلية أكثر من احتمال إصابته بها في القرى.
لقد كشفت المراجعة أن خطر إصابة ساكن المدينة بالأمراض العقلية الرئيسة كالقلق، والغضب، والاختلال، وتعكّر المزاج، واضطرابات الإدمان… أعلى في المدن منها في الريف. بل إن دراسة دنماركية بينت أن خطر الإصابة بالفصام (Schizophrenia) يزيد بمقدار الضعف عند الأفراد الذين عاشوا الخمس عشرة سنة الأولى من حياتهم في مدينة كبيرة عنهم في المناطق الريفية، وأنه كلما طال الزمن الذي يقضيه الطفل في البيئة المدنية زاد خطر إصابته فيما بعد بالفصام.
إن اضطرابات المزاج تتكرر كثيراً عند سكان المدن، مما يدفع بعضهم إلى تعاطي المخدرات. كما تؤدي اضطرابات الإدمان إلى المزيد من التعلق بالانترنت والألعاب الالكترونية.
أما عوامل الخطر على الصحة العقلية في المدن فهي:
التمركز السكاني الشديد للفئات ذات الخليفة الاجتماعية والاقتصادية المتدنية(أي في المستوى التعليمي والدخل).
الفصل السكاني أو التمييز والاستثناء الذين قد يؤديان إلى الإصابة بالفصام، أو إلى الانتحار وغيرهما من الأمراض العقلية، ومثلهما أسس القبول الجامعي في تأثيرها النفسي الخطير على المستثنيين من القبول حسب رغباتهم لحساب أصحاب معدلات أدنى، فهل يدرك المعنيون ذلك؟!!!
يلاقي الناس في المناطق الفقيرة أو المحرومة اجتماعياً صعوبات جمة في بناء العلاقات الاجتماعية وفي استدامتها، ويكونون أكثر عرضة للأمراض العقلية. ويضعف في المناطق غير المنظمة أو المتروكة اجتماعياً، الأمن ويزداد العنف ويلحق أذى كبير بصحتهم العقلية.
وكشفت المراجعة عن انتقال كثير من الناس الذين يمرون بصعوبات حياتية قاسية كالطلاق، أو فقدان الوظيفة، او العمل… إلى المناطق الفقيرة حيث أجرة المنازل أقل.
لعل المثير في هذه المراجعة كشفها عن تأثير البنية الفيزيقية للمدينة (تصميمها) الكبير على الصحة العقلية للناس، ومن ذلك ان العيش قرب الشوارع الرئيسية أو المطارات، أو البنايات العالية التي تبدو طاغية والإنسان بالنسبة إليها ضئيلاً، له ارتباط بارتفاع مستوى الضيق والعداونية عندهم، ويؤثر نظام الاضاءة على الايقاع اليومي للناس، وعلى أنماط نومهم .
ويحضرني بهذه المناسبة التصميم السيئ لمدينة عمان الجديدة. لقد كان عشوائياً أو استرضائياً. كما جعل وقوعها على الجبال وبين الوديان الحياة الفيزيقية فيها صعبة بل مرهقة جسمياً ومتوترة نفسياً. نعم قد يعجب بها السائح العابر ولكن العيش فيها صعبٌ حركياً، ومع هذا فإننا نحبها.
إن تصميم المدينة له ارتباط قوي بالصحة العقلية لسكانها. لم يدرك مهندسو الأمانة ذلك.
كما كشفت البحوث عند تأثير البنية الفيزيقية السلبي في المدن عنها في القرى، كما في المستويات الأعلى من التلوث الصوتي (السيارات مثلاً) وازدياد تهديد الحوادث اليومية والعنف للحياة على الصحة العقلية للناس.
لكن الوصول السهل إلى المساحات الخضراء والزرقاء (المائية) التي تخفض الحرارة أيضاً، وأماكن اللعب، وممرات المشاة يقلل من الكآبة ويحسن المزاج ويحسن النشاط الجسمي. وعليه فإن تحقيق التوازن بين العوامل المؤدية إلى الأمراض العقلية، والعوامل الوقائية منها أفضل لصحة المواطنين العقلية.
وباختصار؛ فإن العدالة البيئية الايكولوجية الاجتماعية والاقتصادية هي الحل.
الصحة العقلية بين المدينة والقرية
أخبار البلد -