كل ما يجري الآن من أداء على ساحتنا السّياسيّة في الأردن؛ يمكن وضعه تحت عنوان: (الارتباك وعدم وضوح الرّؤية)، وليس له وصفٌ سوى أنّه مجموعة فقاعات يعجّ بها البلد، وهناك شعبٌ بأكمله ضجر وملّ من ملاحقتها بعد عجزه عن الإمساك ولو بعددٍ قليلٍ منها...، فانكفأ إلى داخله بعد أن أيقن واطمأنت نفسه بأنّها فقاعات تحمل كلّ شيءٍ في فراغها ما عدا أطروحات واضحة، ورؤى صادقة تصبّان في مصلحته...!
سابقاً وفي القحط والقيظ والخوف العربي؛ لكم شكونا من تنظير النّخب السّياسيّة والناشطين وراء (الكواليس) والصّالونات التي تحدّثت عن وجوب التّغيير والإصلاح والتّضييق على آلة الفساد والقضاء على عمّالها المفسدين وغيرها من المطالب المشروعة والواقعيّة...، الآن وقد أزهر الرّبيع العربي وزال الخوف، مالذي قدّمته النّخبة وجاءت به بعد أن خرجت معلنةً عن نفسها للأردنيين وأمام الوسائل الإعلاميّة المسموعة والمرئيّة والمقروءة؟! مصالح ضيّقة فرديّة وجماعيّة، خلافات متكرّرة، تقديم أحلامها ورغباتها على أحلام الوطن ورغبات المواطن اللذان خرجت من أجلهما... .
في المشهد النّيابي؛ لم نلمس سوى مئة وعشرين متصارعاً يتصارعون مصارعة أمريكيّة حرّة تعتمد على التّمثيل والتّهويل الإعلامي والأضواء والصّيحات والصّرخات أمام (شعبهم المُختار)... جمهورٍ مُختار (عَ الكيف) وجد في مشاهدتهم وتشجيعهم علاجاً ووسيلة تفريغٍ لما يعانيه في داخله من كبت وعنف وألم وظلم، ورغم جلسات هؤلاء النّواب ولجانهم وحلباتهم ومؤتمراتهم وتصريحاتهم المتناقضة والعشوائيّة؛ لم يلامسوا قلوب البسطاء الذين انتخبوهم...، فلم يقدّموا لهم حلولاً لمشاكلهم المُزمنة المترامية الكثيرة التي يعانونها، وبخاصة الحياتيّة منها، ولم يظهر بينهم فحلٌ أو رشيدٌ يمكن أن يلتفّ النّاس حوله أو على أقلّ تقدير...؛ يشعرون بأنّه لهم أو منهم...!
وحول بعض الرّموز والشّخصيّات الوطنيّة (حسب التّصنيف المحلّي لمدينة عمّان وضواحيها)؛ فتجدهم يتركون الهموم الوطنيّة ورسالاتهم ومشاغلهم ويتفرّغون لتقاسم المستقبل وهباته المتنوّعة فيما بينهم، وبث الإشاعات والاتهامات والعمل على ما يمكن له إعادة الكرة إلى مرماهم عن طريق اللعب الجماعي وأحياناً الفردي...، وكل ذلك يجري فيما بينهم دون استئناسٍ لرأي الشّارع غير الموجود أصلاً في نظرهم وسمعهم، فهو بالنّسبة لهم مجرد إضافة اقتصادية وتوفيريّة في كلّ شيء، فلا هي تبلى لقدرتها على التّحمّل و (الدّعك)، ولا هي تتغيّر لحفظها كقالب (Tamplet) في ملفّات حاسوباتهم المحمولة من الخدم والعبيد! وعلى هذه الصّورة؛ أيقن الأردنيّون بمرارة بأنّ رئيس حكومتهم الذي يريدونه ويطلبونه بشفافيّة ووضوح لن يأتِ وسيطول انتظاره! وهنا أرجو من هذه الرّموز أن تسأل نفسها سؤالاً وهو: ماذا سيفعلون في حال أضحى رئيس الوزراء في الأردن نيابيّاً مُنتخباً؟ هل سيبقى أكثرهم شخصيّة لا يُشقّ لها غُبار كما هو الآن، أو رمزاً لا يأتيه الآن الباطل لا من فوقه ولا من تحته؟ الجواب: لننتظر...، فلا بدّ أن يأتي حينٌ وفيه (لن يُبقِ منهم إلّا صورة اللحم والدّمِ...)!
ولنذهب إلى المشهد المُضيء – المشهد الحكومي – والذي عنه حدّث ولا حرج، (فالنّيه) أنّها قد جاءت (حرّاثة بنت حرّاث)؟! فلمْ تختلف عن أخواتها، والتي جميعها رفعت المنصوب ونصبت المرفوع، أداؤها جاء باهتاً روتينيّاً لم يُقنع ولم يُكرّم، خفّت هيبة الدّولة، الاقتصاد خرج ولم يَعد، وزراؤنا عشقوا الصّحافة والفضائيّات لتلميع أنفسهم بعد أن تركوا النّاس يموج بعضهم ببعض وحسبوا النّاس قد استغنوا عن أكل الخبز بأكل التّصريحات والمناشدات...، فما معنى أن تقوم الحكومة بمناشدة التّجار الجشعين بعدم رفع أسعار السّلع بعد احتكارها وتخزينها؟ هل تنفع مع هؤلاء المناشدة؟ ما ينفع معهم هو شن حملات صادقة على أسواقهم وضبطها، ومحاسبة المسبّبين وسجنهم، وهو أولى من مُحاسبة موظّفٍ بسيط تأخّر عن عمله بسبب منطقته المعدومة النّائية وإن كان يملك سيّارة فهي من نوع (حمار) يُخفيه ويتستّر عليه خوفاً من شموله يوماً ما بالضّرائب الجمركيّة والتّرخيص، ولكي يُبقي عليه ليوصله إلى الطّريق الرّئيسي حيث وسيلة المواصلات التي على الأغلب تكون وحيدة، وإن كان لها أخت فهي بنصف عمرٍ هناك...!؟؟؟
أمّا الأحزاب القديمة والجديدة؛ (فليلٌ كموج البحر أرخى سدوله....)، فقديمها الذي أصبح كوشمٍ في ظاهر اليدِ، وعفى عليه الزّمن؛ يبحث لاستعادة رسمه الدّارس وصورته الباليه عن تحالفات جديدة هنا، وعن مغازلة ومداهنة سلطة أو قوّة هناك، وجديدها الذي أمِلنا بأن يقوم بملء فراغٍ ظاهرٍ موجود؛ لم تزل تعقد ندواتها في صالاتٍ بأربعة جدرانٍ وبأفخر (المايكروفونات) والأثاث والدّيكورات، فتصيغ نظريّاتها بعيداً عن النّاس ودون الحاجة للنّزول لهم...، وكلّ ما هنالك هو صياغة برامجها وإرسالها لهم مع نسيم وصحف الصّباح الرّسميّة والالكترونية!!! ثمّ تندهش وتفاجئ أنّ بعض الأحزاب ذات الوزن الثّقيل كالإخوان؛ يتحالفون أحياناً مع أحزابٍ قد جاء حبلها ومخاضها وولادتها بإشراف مباشر وغير مباشر من داخل مقار المؤسسات الأمنيّة! لما لم يكن هذا التّعامل ولنقل التّحالف مع قوى ليبراليّة أو وسطيّة؟ ولماذا فشل الإخوان في كسب تيّارات ووجوهٍ وشخصيّات وليدة وجديدة وضمّها إليهم؟
أمّا صاحبة الجلالة – الصّحافة – والجانب الإعلامي بشكل عام؛ فهي كمن صام دهراً وأفطر على بصلة لا ناشفة ولا خضراء، فصحفنا مشغولة بتوجيه تهم الفساد مجّاناً وللمقايضة النّفعيّة أرضاً وجوّاً، وصياغة اللحظة التّاريخية لخروج وعودة (خالد شاهين)، وقراءة طالع وفنجان (دعد شرعب)..، أصدقت هي أم كانت من الكاذبين، وتحليل مقال (عريب الرّنتاوي) وهل هو من المارقين أم مترفٌ ويريد أن يفسق فيها ليدمّرها، وبث الفرقة والفتنة (البينيّة) بطرح بضاعة محليّة وأجنبيّة بأسعار مناسبة وقيمة هزيله، وكلّ هذا يتم يوميّاً دون تقديم إيّ رؤية لمستقبل الأردنّ ويمكن لها رسم ملامحه الأوّليّة... (لجّه وقايمه)، وفيها ومن خلالها لا يُطلب منك أن تفهم، فكل ما هو مطلوب هو أنّه يجب أن تقرأ فقط أو تسمع!!! أمّا الفضائيّات المبتورة الأطراف؛ فتعلم جميعها أنّ الفضاء سيسقط عليها دون جذبٍ وإثارة كوسيلتين تبررهما الغاية، فتبحث عن كلّ سلبيّة وفضيحة بغض النّظر عن تأكيدها أو نفيها...، فأغلبها لم نجدها وقد عملت على تعبيد طريقِ هُدىً وإنارتها بمستقبل مُشرق يجعلنا لا نتحسّر على ما قدّمه أوّلنا أو ما سيقدّمه أوسطنا وآخرنا... .
وبكلّ صراحة ووضوح...؛ لم يرَ الأردنيّون جديداً منذ زمنٍ بعيد، بل أضحى مستقبلهم مُقلقاً أكثر منه مُطمْئِناً، ومخيفاً أكثر منه آمناً، والخوف كلّ الخوف هو أن يكفر الأردنيّون بكلّ شيءٍ...، التّغيير، الإصلاح، وكذلك الديمقراطية التي طال سفرها وملّوا انتظارها بعد أن بُشّروا بها، وقالوا لهم بأنّها على بعدِ (مقرط العصا) وأنّها قادمةٌ على الدّرجة الخاصة في أوّلِ مقعدٍ من مقاعد خط الباص السّريع...!
(اللهمّ ابعث للأردنيين سفينة تحملهم وهيئ لهم جوديّاً يستوون عليه فينقذانهم من الغرق وينجّيانهم من القوم الظّالمين...، اللهم هب لهم من لدنك رحمة وهيئ لهم من أمرهم رشدا...، آمين يا رب العالمين)!
د. صالح سالم الخوالدة
shahimhamada@yahoo.com