لا أدري إن كان من الطبيعي الإشادة بتفكير وأداء وجرأة زملاء في المهنة، في ظل متاهة فرضت على بوصلة الإعلام في البلاد أم أن ذلك واجب، إذ لا يمكن تجاوز زملاء صحافيين اختطوا المهنة بعرقهم دون منة، لم تعصف بمحتوياتهم منعطفات مؤقتة على شاكلة برقيات محسومة لا تتعدى بأهميتها تقارير موظف بسيط في ضريبة الدخل.
في المقابل، سجل المشهد الإعلامي بجزئية ما تشوهات فرضتها حراكات محلية وتغولات سلطوية من مؤسسات وشخصيات، صورة فضلى لأشخاص لا علاقة لهم بما يدور وهم على الأقل لا يستوعبون سوى معنى 'طعم السيجار بعد 35 عاما قضوها من أعمارهم في هذه المهنة، هؤلاء يعيشون رفاهية مخرجات الإعلام الجانبية يفتقدون الأساسيات فتراهم يتيهون أحيانا ما بين إن كانوا صحفيين حقيقيين أم أنهم دعاة إصلاح وينشدون حرية إعلام حقيقية.
انشغال غير مسبوق بوجبة من تسريبات ويكيليكس، فمنهم من وصفها بالصفقة الكبرى وآخر اعتبرها فضيحة، بينما ذهب البعض بوضعها في خانة المؤامرة، غير أن تداول مضمونها بشكل مكرر ليس إلا تأجيجا لمشاعر وبحثا عن وطنية غائبة وعزف على وتر حساس بالأصل أن يعالج دستوريا وقانونيا ويحسم شعبيا على الملأ لا من بين السطور ولا من خلال تسريبات في ظل رياح غير مستقرة داخليا وإقليميا.
لست بصدد مناقشة الآراء التي طرحت وإن كنا نحترمها وفي نفس الوقت لا نتفق معها، لكن السؤال لماذا هذه المساحة من الوثائق في هذا الوقت تنفرد بالعلاقة الأردنية الفلسطينية وردة الفعل غير المسبوقة، مع العلم أن الوثائق لم تأت بجديد، وهي قضية تناقش على المستويات كافة منذ عقود ولم ينفرد من ذكروا بالبطولة.
وصفها بأنها مفاجآت من العيار الثقيل واعترافات، أو أنها مخزية أمر مبالغ فيه، فكل في موقعه مسؤول عن علاقته وتواصله على الصعيد المحلي أو الاقليمي والدولي، على الأقل لنتحدث عن كل ما هو مخزي ومعيب وليس كما حدث في ملفات فساد من انتقائية واختيار فالتطرح كل الاسماء، غير ذلك إن ما تم تداوله كان يقتصر على الصالونات الضيقة هو الآن علنا في ظل ثورات الربيع العربي بوثائق أو من دونها.
السؤال الآخر: ماذا لو أفردت الوثائق في وقت قريب برقيات تخص رجالات في الدولة ودبلوماسيين وفئة رفيعة المستوى تتقلد حاليا أو أنها تقاعدت آراء نقيضة لما تخصصت به الوثائق الحالية من شكوى ودعوات كما توصف الـ"محاصصة".
بالطبع ستتوارى ردود الفعل وستجير مجددا في الاتجاه المعاكس، رغم أنه من الطبيعي التعامل مع الموضوع بموضوعية وعقلانية باتجاه المصحة العامة ودفاعا عن الوطن بالدرجة الأولى.
كيف سنرى ردة الفعل بعد الحديث عن عرابي التسوية والمدافعين عن معاهدات السلام، وسنترقب ما سيكتب عن المتآمرين على الفقراء لحساب مصالح شخصية ومزيد من النفوذ، وتنفيعات أراضي وهبات من هنا وهناك بعد منح الوكالات وإباحة الأختام والتواقيع.
المفاجأة ستكون في ردة الفعل تجاه برقيات ستتناول واقع الحال الفعلي وحقائق ملموسة على الأرض على المستوى الشعبي والرسمي وحتى الدبلوماسي بما يتعلق بممارسات تضييق سياسية ومدنية، أقلها ما يتعلق بحقوق الانسان والعدالة، الغريب حتى اللحظة هنالك انكار عام لا نعلم إن كان مقصودا أم أنه لا يشاهد، لكنه موجود.
على النقيض من ذلك تجد من يشغل بالهم ليل نهار ما حدث ويحدث وكأنهم أصحاب القضية، رغم أن مسؤوليتهم تنحصر في نقل المعلومة والحقيقة والفكرة، يأبون وبمجرد دغدغة داخلية أن يتوقفوا عند هكذا موقف، يجزمون بأن حياتهم اقترنت ولا يمكن الرجوع عن ذلك، أي امتزجوا بحياة كل الناس سواء كانوا مسؤولين أم مواطنين، أي دخلوا بوابة الشعب بشق إعلامي لا نيابي.
سياسي وإعلامي بارز كان يبهرني عندما يصرخ قائلا استبدل كلمة (المواطنين) بمصطلح "أهل البلد"، ذلك أبقى في داخلي غصة لمن لا يفهمون بعد معنى الأوطان ويجادلون في مفهوم المواطنة، وترك نشوة في أحشائي تحتمل ضغوط من لا يفقهون.
السياسي الفريد من نوعه لست أنكر أنني تلصصت في داخله لأفهم عواطفه الجياشة تجاه مصطحات مثل "الليبراليون الوطنيون" أو "القومية العربية" وأخرى مثل "الديمقراطي"، و"القومية" و"الهوية" و"الانتماء".
كلها أدخلتني في متاهة من جديد مع يقين في داخلي أن لدى الرجل مصطلحا شاملا يفكر فيه دوما ويعمل على تحقيقه، ذلك يتوافق مع شعور في داخلي لطالما لسعني وأنا شاب، وما زال يدغدغ عواطفي التي كانت جياشة وتم تهدئتها بمطرقة أفكار الجاهلين.
كثير من الزملاء قريبون من القلب لسبب أحادي أنهم يمتهنون المهنة ويتفردون في صياغتها بشكل جميل كل على حدة وبصور مختلفة.
أولهم يعمل في صحيفة عربية ما تعانق البلدة القديمة، أفسح له المجال أن يترك صبغته الخاصة في تقاريره وبانتقاء سقف براق شفاف وجريء لما يطرح، ذلك يعود بي بالذاكرة عندما عملت مراسلا لصحيفة الشرق الأوسط لمدة خمسة أعوام، أما الثاني فذلك صاحب القلم الذي لا ينكسر، وإن كان لا بد فيستخدم الحجر لرسم معالم أفكاره في صوغ مقال أو تقرير وحتى رأي.
عزيزي الآخر إبن الجنوب الذي عملت معه مع صدور الزميلة "العرب اليوم" وفي "الغد" لم يتغير كثيرا سوى أنه أضاف لفكره الثابت جسورا وطوابق جديدة من الاحتراف وسعة الذهن وخلاف ذلك، تحدث عن التفاح كثيرا، ينقهر لتصدير معظمه.
تلك الصور لا تأتي بالخاطر إلا بتحرك حاد لطبقات الأرض الداخلية يرافقها تحرك غير مفهوم لسياسات الإعلام في بلادنا، ما الذي يحدث؟ هل ينبغي أن يرتقي الإعلام بتشريعات جديدة أم أنه ينمو بفعل متطفلين، وهل ستبقى صورتنا كما هي تنمو أم سيرش علينا الملح كمثل حشرة نيسان.
زميلي البدين بين الفينة والأخرى يجزم على حلق ذقنه، بينما الآخر دائما متأنق لكن خلف ذاك الجاكيت الرونقي هنالك روح تبكي وتعصف بها تغيرات الأمور فتجده يتحدث بثقة تامة، لكنه بكى أكثر من مرة في لقاءات مع فضائيات؛ في سياق الحديث عن سحب الجنسيات، ما يشي بأن الرجل أعطف من العاطفة وأصدق من الصدق ذاته.
أما الثالث فمنفعل دائما ومقهور يرغب بإصلاح كل ما هو مهترئ لا يقتنع بأن الصورة الحالية هي الواقع، يعتقد بأننا نستحق الأفضل، تعابير الوجه المشتدة دائما تقول لك "خلص" ارتبطت بعبارة غالبا ما يرغب بتكرارها وبشكل عفوي "مشان الله خلص بكفي"، لا تستطيع أن تفسر ما يقصده، فتارة يخاطب الواقع العربي وأحيانا يعرج على ما يحدث لدينا وتحديدا في الجنوب وأحيانا يقصد فاسدين بعينهم.
الأول يداعب الزملاء ويستهزئ، يذهب ويجيء في معظم لقاءات الصحفيين أو حتى في مناسبات عادية، يطلق كلمات لا يسمعها سوى المحيطين في دائرة خمسة أمتار، أبرزها "كيف يعني"، "ليش هو كان السابق أحسن"، "سيبونا كل مرة نفس القصة".
أما إن كانت له مداخلة تعتقده بأن محاربا بدون تحضير، استعد لخوض معركة وتجد الأسئلة فورا تجهز في كينونته، بالطبع تتركز في المناقشة والجدال وغريبة جدا عن تلك التي اعتدنا عليها في مؤتمرات صحفية باهتة.
أعترف أنني استفدت كثيرا من تجربته في صوغ الكلمات وتركيب العبارات، حتى إن تعابير وجهه ظهرت في جمل تضمنتها تقاريره المرسلة من عمان.
أما الثاني فقد شربت من كأس زمانه الطويل وعقدت العزم على أن أكون شبيهه في ما أحس من وجع وظمأ لشريحة تعطشت للحرية وكرامة وإحساس أضاعته الظروف، ومن لهفة الثالث وغيرته على الوطن التي أخجلتني أكثر من مرة وجعلتني أضع نصب عيني بلادي والدفاع عنها بشريطة أن تخلو من الفساد.
خارج السياق التقليدي على شاكلة الزملاء هم من فازوا، أم علينا أن نستمر بالمجاهرة والتصدي وبعث الأمل من جديد في وجه المتطفلين على المهنة؟.
لكن وجود متطفلين كثر فهذا مؤكد، لذلك وجب التنويه بأن الإعلام في بلادنا ما زال يتحسس الطريق، فمن نجا من خلال العمل في قنوات أخرى فهنيئا له، ومن بقي عليه ان يصارع، ومن استراح من البداية وما زال على أساس تنفيع فسيأتي يوم تنكشف مهنيته ويصطدم بأن الإمدادات نفدت وعليه آنذاك أن يستعين بقدراته الذاتية، إما أن ينجو أو سيكون الإخفاق حليفه إلى الأبد.