أخبار البلد -
يقال ان الاسرار المرتبطة بفنون الحرب واحدة مهما اختلف زمانها ومكانها, فعبر التاريخ الماضي شهدت فترة الجاهلية حرب سميت بحرب داحس والغبراء التي خاضها العرب فيما بينهم في الجاهلية بين فرعين من قبيلة غطفان هما عبس وذبيان, واستمرت نحو أربعين عاما من الاقتتال الدامي بينهم, هذه القبيلة الكبيرة شهدت حربا اشبه ما تكون بحرب هذه الايام والتي أخذت طابع الطائرات المسيّرة,...والمقاربة الطريفة هنا ان داحس هو حصان اصيل اشقر اللون انطلق يقاتل دون ان يمتطيه فارسه المنتمي لقبلة عبس, والغبراء هي فرسا سمراء مشهورة انطلقت لتقاتل ايضا دون ان يمتطيها فارسها المنتمي لقبلة ذبيان,..فما هو وجه الشبه بين صولات وجولات داحس والغبراء الاصيلة دون فارسيهما, وبين حرب الطائرات المسيّرة دون طيار؟
داحس والغبراء كانا بمثابة طائرات مسّيرة لطرفي القتال لقبيلة غطفان عبس وذبيان, داحس والغبراء كلاهما مبرمجين يعرف كل منهما ما له وما عليه في ساحات الوغى والقتال, ويقال والله اعلم ان كلاهما كان يتزود بشرب الماء قبل انطلاقه العفوي لساحات القتال, وعند عودتهما يمتنعان عن شرب الماء حتى يجف عرق جبينهما المتصبب, لقد كان كلاهما كالعاديات ضبحا, وكالموريات قدحا, وكالمغيرات صُبحا,..كيف لا والخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة, ثم كيف لا ولرباط الخيل مكانة في ترهيب الاعداء من اجل ترغيبهم في الحق, لقوله تعالى:(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدوّ الله وعدوّكم).
في الآونة الاخيرة كثُر الحديث عن حرب الطائرات المسّيرة, كأسلوب تكنولوجي حديث في الحرب, ويبدو ان العالم كل العالم متجه بخطى سريعة نحو هذا النمط والاسلوب من القتال, لما له من العديد من الخصائص الفنية العسكرية الايجابية في مناخ واجواء المعارك, والغريب العجيب هنا ان الطائرة المسيّرة هي طائرة دون طيار, تُبرمج وتوجه عن بعد، يتحكم فيها خبراء متخصصون من على الأرض، وتكون مجهزة بأدوات تسمح لها بأداء المهام المطلوبة منها، وقد تكون مزودة بأجهزة وكاميرات تصوير، وبقذائف وصواريخ لاستخدامها ضد أهداف معينة.
تقول مراكز الابحاث انه تم تطوير الطائرات المسّيرة دون طيار في عام 1924م وذلك في أعقاب تجارب علمية جرت في إنجلترا عام 1917م، وكان الهدف منها ضرب الاهداف الثابتة، وقد بدأت فكرتها منذ أن سقطت طائرة التجسس الأميركية يوتو في أراضي الاتحاد السوفياتي السابق عام 1960م, وكان أول استخدام عملي لهذه الطائرات في حرب فيتنام، ثم في حرب أكتوبر1973م، ولكنها لم تحقق النتائج المطلوبة في ظل وجود ما سمي بحائط الصواريخ المصري, وقد استخدمت بفعّالية في معركة سهل البقاع الجوية بين سوريا وإسرائيل عام 1982م والتي أسفرت عن سقوط عدد من الطائرات السورية دون سقوط أي طائرة إسرائيلية، وذلك بعد أن تمكنت إسرائيل من تعطيل أنظمة الدفاع الجوي السورية الروسية الصنع من خلال ملء الأجواء فوقها برقائق التشويش.
الطائرة المسيّرة أو الطائرة بدون طيار أو الزنانة هي طائرة توجه عن بعد أو تُبرمج مسبقا للأهداف المرصودة مسبقا, وتكون مزودة بأجهزة كاميرات رصد وتصوير وبالقذائف الذكية, وان الاستخدام الأكبر لها هو في الأغراض العسكرية كالمراقبة والرصد والهجوم, لكن في الآونة الاخيرة شهد استخدامها في الأعمال المدنية مثل مكافحة الحريق ومراقبة خطوط الأنابيب ذات المسافات الطويلة, وتُستخدم في المهام الصعبة والخطرة مقارنة بالطائرات التقليدية والتي يجب أن تتزود بالعديد من احتياجات الطيار كأدوات التحكم في مقصورة الطائرة، وبالمتطلبات البيئية كمقياس الضغط والأكسجين، ولقد أدى التخلص من كل هذه الاحتياجات إلى تخفيف وزن الطائرات المسيّرة وتكلفتها، الامر الذي غيرت فيه هذه الطائرات طبيعة ومخاطر الحرب الجوية, بحيث أصبح المتحكم في الطائرة غير معرض لأي خطر.
الباحث دينيس من المركز الألماني لأبحاث الطيران والفضاء يؤكد ان هناك تطبيقات أمنية ومدنية للطائرات المسيّرة منها: القدرة على اكتشاف وجود مواد ملوِّثة في الغلاف الجوي, وتوفير الامن والامان, وتقديم خدمات واسعة النطاق في مجال الدفاع المدني والإطفاء والإنقاذ من الكوارث، والمراقبة الأمنية للفعاليات الضخمة كالمظاهرات والحفلات الموسيقية في الاماكن المكشوفة، بل وحتى في مجال البحث عن المفقودين في حالات الطوارئ، وفي مجالات الابعاد الثلاثية للزلازل والحرائق في المناطق الواسعة.
كما ويضيف الباحث الألماني دينيس ان للطائرات المسيّرة اهمية بالغة في حالات التلوثات النووية أو البيولوجية أو الكيميائية والتي لا يمكن معها إرسال طيارين من البشر إلى مواقع الكوارث، حفاظاً عليهم وحماية لأرواحهم, وتبدو الآفاق المستقبلية للطائرات المسيّرة دون طيار، والتي تستطيع التحليق على ارتفاع يزيد على عشرة آلاف متر، مناسبة جداً للأغراض المدنية لخفة وزنها وقدرتها على جمع المعلومات والبيانات وتحليلها مباشرة, وإذا ما تمّ استخدامها في المستقبل بشكل تجاري وعلى نطاق واسع فستظهر تساؤلات حقوقية عديدة حول مسألة الحفاظ على خصوصية المعلومات الشخصية للأفراد والمؤسسات التي يمكن ان تجمعها مثل هذه الطائرات المسيّرة بطريقة دقيقة وسريعة ومنظمة في آن واحد.
بقي ان نقول: لقد انتقلنا من هجوم كل من داحس والغبراء دون فارسيهما الى تلك الطائرات المسيّرة دون طيار, وانتقلنا من غبار وأتربة حوافر وقوادم داحس والغبراء في ارض المعركة الى الغاز المسيل للدموع المنبعثة من تلك الطائرات المسيّرة, وأكثر من ذلك فقد انتقلنا من صهيل داحس والغبراء الى صوت زنّانة تلك الطائرات المسيّرة, والاجمل من كل هذا وذاك فقد انتقلنا من قراءة وفهم الملامح المرسومة على جبين كل من داحس والغبراء العائدة من ساحات الوغى الى تحليل الصور الملتقطة من سماء المعركة المعروضة على شاشات الطائرات المسيّرة, ومع كل هذه التكنولوجيا بطائراتها المسيّرة, فستبقى داحس والغبراء بكل كبواتها وعثراتها معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة.
السؤال العريض هنا, هل عنترة وعبلة صوتا لصالح حرب داحس والغبراء, وهل روميو وجوليت صوتا لصالح حرب الطائرات المسيّرة, اعتقد ان كلا الطرفين قد صوتا لصالح الحياة وليس الموت.