يشهد الأردن ومنذ العام تقريبًا انتشار ظاهرة غير معهودة تتمثل بتداول و نشر مضامين و صور وثائق حكومية يُفترض بها السرية و التداول الداخلي المحدود، ووصل الأمر لتداول كتب رسمية مصنفة (بالسري جدًا و محدود الاطلاع) و حتى من بعض الدوائر السيادية و الأمنية الحساسة كذلك. يتزامن كل ذلك مع حالة احتقان عام و مظاهر مستجدة على المجتمع الأردني مثل: مسيرات العاطلين عن العمل، و احتجاجات الدوار الرابع أمام مقر الحكومة، على وقع الأزمة الاقتصادية و حالة الركود التضخمي التي تعصف بالمؤشرات العامة و اليومية للناس.
يمكن للمرء النظر لتلك الظاهرة من منظورين متباينين، الأول يرى بإيجابية كشف و (فضح) الممارسات الحكومية غير المهنية أو غير القانونية أو غير الأخلاقية، و تعتبر ذلك جزءًا من مفهوم الشفافية و حق الحصول على المعلومة و حق الاطلاع العام على أعمال الإدارة العامة، و خاصة في ظل التكتم الرسمي على معظم المعلومات، واحتكارها بيدها، و عدم تفعيل (قانون حق الحصول على المعلومات)، و عدم رد الحكومة على الأسئلة الموجهة لها من مجلس النواب ومن الصحافة و من المعارضة كذلك في كثيرٍ من الأحيان. المنظور الثاني يرى بضرر تلك الظاهرة حيث يعتبرها خرقًا للخصوصية، و اختراقًا لأسرار الدولة، و عملًا غير قانوني و لا أخلاقي أيضًا من شأنه إلحاق الضرر بالدولة و أمنها و مصالحها العليا.
في كثيرٍ من الدول الديمقراطية هنالك مفهوم يعرف بالمُنذِر (Whistle Blower) وهو أن يقوم شخص ما بفضح عمل غير قانوني أو غير أخلاقي يتم ممارسته في مكان عمله، بحيث يتم حماية ذلك الشخص ضمن برنامج حماية الشهود، وذلك بهدف تحفيز الناس على كشف جوانب القصور و المخالفات التي تحدث في مؤسسات الدولة و الشركات بدون التوجس من العواقب التي قد تلحق بالشخص المُنذِر بسبب فضحه لملفات معينة.
البُنية التشريعية في الأردن تستقر على إيقاع عقوبات مغلظة على كل من يقوم بعمل يندرج تحت بند (إفشاء الأسرار، و نشر المعلومات و الوثائق المصنفة بالسرية)، ابتداءً من قانون حماية اسرار ووثائق الدولة لسنة 1971 ، فمرورًا بقانون العمل ساري المفعول الذي يعاقب بالفصل من الوظيفة (بالمادة 28/و) منه، فقانون العقوبات الساري الذي يُدرج عقوبة خاصة لكل تصنيف (درجة السرية) الخاص بالوثائق المسربة. بهذا لا نستطيع القول بأن التشريعات في الأردن تلعب أيّ دورٍ في انتشار ظاهرة نشر الوثائق و تسريب المعلومات.
السؤال الذي يدور في ذهن الكثير هو: كيف و لماذا يتم تسريب الوثائق بهذا الشكل و في هذه الأيام بالذات؟ قد تكون الإجابة أكثر تعقيدًا أو أبسط بكثيرٍ مما نعتقد؛ فمن المتوقع أن لا يخرج مُبرِّر ذلك عن أحد هذه الأسباب الموضوعية:
(1) من الناحية التقنية و الفنية: سهولة تنفيذ عملية تصوير أو تسجيل أي محتوى رسمي عن طريق الهواتف المحمولة الذكية و كذلك سهولة تداولها عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي تحت أسماء و حسابات وهمية.
(2) من الناحية الأمنية: استحالة ضبط و منع تداول أية وثيقة رسمية بيد عدد (محدد) من الأشخاص وذلك بحكم قيام بعض الموظفين مثل المراسل و الطابع و موظف الأرشيف و الديوان والسائق من الاطلاع على فحوى الوثائق أثناء القيام بعملهم اليومي الطبيعي.
(3) من الناحية التعقبية: يصعب تحديد الشخص الذي قام بتسريب الوثيقة حيث أن اتساع دائرة المُطَّلعِين عليها تجعل الاتهام مائعًا و جزافيًا، و خاصةً إذا تمكّن شخص آخر (غير مصرح له) بولوج نظام المعلومات بطريقة غير رسمية أصلًا.
(4) من الناحية الوظيفية: في معظم الدوائر و الموسسات هنالك من أشكال الصراع و التنافس ما يدفع بأحد الأطراف بتجنيد موظفين في أقسام معينة بهدف كشف و فضح أية وثيقة من شأنها الإضرار بالمدير أو المسؤول الذي يُعتبَر تهديدًا أو منافسًا له في المنصب شبه الشاغر.
(5) من الناحية السياسية: يتم تسريب وثائق معينة و بتوقيتات محدّدة و بشكلٍ مقصود من بعض الجهات بهدف خلق حالة التمويه و التضليل و الإلهاء أو بهدف (اغتيال شخصية عامة) إداريًا و سياسيًا على نية إنهاء دوره في مؤسسة ما.
(6) من الناحية الخاصة الفردية: بعض الموظفين الذين يشعرون بالظلم و التهميش، و مِمَّن لديه خلافات خاصة مع مؤسسته أو مديره المباشر، فإن بعضهم يقوم متعمدًا بتسريب وثائق للخارج كرد و انتقام على ما يشعر به من مظلومية و عدم اعتبار.
بغض النظر عن مبررات و أسباب ظاهرة تسريب المعلومات و الوثائق التي نشهدها بوتيرة متسارعة و خطيرة هذه الأيام، فإن هذا العمل يبقى سلوكًا غير قانوني و لا أخلاقي و ينافي مبدأ الثقة و الأمانة التي ينبغي توافرها بكل موظف عام أو خاص، ولا يمكن تبريره بالفساد و سوء الإدارة الحاصل في الدولة بأي شكلٍ كان.