عمّـــانيات 4/9
بقلم: شفيق الدويك
مع نهاية عام 1961 إستطاعت الوالدة ، أطال الله عمرها، أن توفر مبلغا من المال (بضعة دنانير)، من موازنة المصروف اليومي ، ليكون دفعة مقدمة لشراء قطعة أرض تمهيدا لبناء بيت للأسرة بدل إستمرار السكن في بيت مستأجر.
علمت فيما بعد بأن تنكة زيت زيتون وبعض الديــكة ! كان جزءا من تلك الدفعة المقدمة أي على أساس المقايضة)، لقد كان حزننا على الديوك شديدا بسبب الألفة التي كانت بيننا وبينهم.
لقد كانت المشاعر حساسة ومرهفة وصادقة حتى تجاه الديوك والدجاجات والصيصان في تلك الأيام، فكيف كانت تجاه الجيران والأهل ، معظم جيراننا الحاليين "قـرفونا "بسبب رمي القمامة أمام العمارة، ويزعجوننا بسبب إستخدام المنبّه بعد منتصف الليل مع أنهم يستخدمون الهاتف المحمول و لا يغادر آذانهم. هل المنبه بالنسبة اليهم يعتبر نوعا من الغزل أم الإعلان عن شيئ ما ؟ لا أحد يدري.
لقد رفضت المساهمة في مسك الديكة لتسليمها للمشتري لأنني كنت الأكثر تعلقا بهم!، أما شعور الدجاجات فلم يعار أي إهتمام من أحد في تلك الحالات بالتأكيد !
الأرض التي تم التفاوض بشأن شراءها كانت تبعد بمقدار مسافة سير الأقدام الآدمية لمدة ساعة عن البيت الذي كنا نسكنه فقط ! . كانت الأرض تقع على بطن جبل موحش تسكنه أشياء كثيرة عرفت منها الواويات والكلاب وبعض الحمير الشاردة أو الهائمة وجميع أفاعي وعقارب وجراذين وجنادب وسحالي وأشواك وصخور معظم عمّان. كانت نقطة إلتقاء لربما ! ، وقد شيّد على الجبل سبعة بيوت متواضعة حتى عام 1962 ، وقت شراءنا قطعة الأرض.
كلمة بيوت متواضعة تعني أن شبابيك البيت مغطاة بقطعة قماش كبيرة، والباب عبارة عن قطعة صفيح مستطيلة غير محصنة.... والجدران بعضها فقط مقصور ليس بسبب الديكور بل لأسباب إقتصادية بحتة، والأرضية عبارة عن إسمنت مخلوط مع تراب ناعم و تدعى (مــدّة.. أي أرض ممدودة) .
في تلك الفترة لم تذكر كلمة بلاط أو رخام أمامي بالمرة ، ورغم ذلك البذخ والإكسسوارات ،المذكورة تفاصيلهما قبل قليل في طريقة العمارة، فقد كان الناس يباركوا بحرارة منقطعة النظير وبصدق أكيد ... أذكر أن الجارات كن يباركن لبعضهن البعض إذا تم تركيب حبل نشر غسيل طويل وجديد، فكيف إذا ما بني بيت (غرفة مع حمام) !
لقد كان يكتفي المباركون بشرب كاسة شاي (مذاقه حلو جدا جدا) على الأكثر تعبيرا عن منتهى الضيافة في ذلك الحين ليس بخلا وإنما علــى أساس " على قد لحافك مد رجليك"....
لقد تعمد الناس في ذلك الوقت إستخدام الأدوات رخيصة الثمن للحمّـــام الأوحد مثلا لتأمين مبلغ لشراء .... حمار!. كان المهم دائما وظيفة الشيئ أكثر من مظهره (شكله) !
أمضينا جميعنا وقتا طويلا في الذهاب الى الأرض لمساعدة جدّي، يرحمه الله، في حفر البئر ، وتقطيع الصخور والحجارة بالمهدّة !، وتمهيد قطعة الأرض (لأبو خديجة)، معلم البناء ،يرحمه الله، ليبدأ في حفر الأساسات، وقد كنا نحمل معنا الأكل والماء الكافي لعدة ساعات، وكنا نترك الماء في الزير ليبرد... ما أعذب مذاق ماء الزير!
مشكلة أبو خديجة أنه لم يستعمل المتر في القياسات لإرتفاع ثمنه في ذلك الوقت، وقد إعتمد في القياسات خيط قنّب متين لازمه في عمله الى أن توفاه الله.
لقد أثّـــرت القياسات بإستخدام ذلك الخيط على شكل البناء المكون من غرفة واحدة بالطبع!، فجميع الجدران كانت مقاساتها مختلفة أي أن الغرفة لم تكن تشبه شكل المربع أو المستطيل على أية حـــال ...! وقد كان إنتقاد الناس أو تعليقهم يشتمل على أن الإنحراف أو الخطأ في القياسات غير ملحوظ أو غير مهم، المهم التوقف عن دفع أجرة سكن!
مرحلة بناء البيت، وحفر البئر شهدت إصابات وضربات عديدة في أيدي وأرجل وأصابع كل أفراد الأسرة من صغيرها وحتى كبيرها، وكنا نستخدم القهوة في وقــــف أي نزيف( شديد فقط)، حيث لم يكن ممكنا إستخدام القهوة للضربات الخفيفة حيث كانت تعالج باللف بأية قطعة قماش متوفرة و بدون تعقيم طبعا !