من علياء تاريخها المجيد والعريق، اطلت علينا قبل بضعة ايام >ام الثورات< العربية التي انبثقت من ارض الكنانة، وانطلقت منذ تسعة وخمسين عاماً، ولكنها مازالت في ريعان العطاء، وموفور الحضور، وقمة الالهام الذي استفادت منه كل الثورات والانتفاضات الشعبية المحتدمة هذا الاوان ما بين المحيط والخليج.
ورغم ان هذه الثورة الناصرية الطالعة من رزنامة شهر يوليو/تموز عام 1952 لم تغب عن الواقع العربي، خلافاً لكل محاولات طمسها وتغييبها.. ولم تنزو في دهاليز الفعل الماضي، خلافاً لسنن الكون واحكام الزمان، الا ان اطلالة ذكراها السنوية لهذا العام تكتسب اهمية استثنائية، وتستحق التفاتة خصوصية، بعدما اسقطت ثورة 52 يناير الشبابية الجريئة نظام الردة الساداتية - المباركية، واهالت التراب على زمن الفساد والتسيب والاستبداد، واعادت الى مصر بعضاً من روحها الناصرية، ووجدانها العربي، وضميرها المعادي للصهيونية والتبعية والطبقية.
وبمثل ما استأنفت ثورة 23 يوليو الناصرية شوط الكفاح الوطني والاستقلالي لثورة 1919 الوفدية بعد قرابة ثلث قرن، فقد استأنفت ثورة 25 يناير الشبابية رسالة ثورة 23 يوليو التحررية بعد نيف وثلث قرن ايضاً، واستعادت الكثير من ادبياتها السياسية، وافانينها التعبوية والنهضوية، حتى لكأن عبد الحليم حافظ، كروان ثورة يوليو، قد انبعث مجدداً في ميدان التحرير بقلب القاهرة الثائرة.
سقط عهد الردة.. تم طرده من الزمن المصري، ولحق مبارك بسلفه السادات الى مجاهل النسيان، فيما عادت صور عبدالناصر وخطاباته الى حيز التداول، وانطلق مجدداً شعاره الخالد >ارفع رأسك يا اخي فقد زال عهد الاستبداد<.. ولن يمر طويل وقت حتى تتجاوز ثورة 25 يناير آلام مخاضها، وتبلور هويتها، وتشق دربها وتختار مسيرتها التي حتى لو لم تستنسخ برامج ومناهج ثورة 23 يوليو حرفياً، فانها سوف تهتدي بهديها، وتقتدي برؤيتها ومبدئيتها، نظراً لان الخط الاستراتيجي لثورة يوليو الرائدة والخالدة لم يأت ارتجالاً واعتباطاً، بل جاء تلبية لاشواق الشعب المصري واحتياجاته، واستجابة لمصالح الدولة المصرية وثوابت امنها القومي ودورها التاريخي وموقعها الجغرافي.
عظمة ثورة 32 يوليو، انها لم تدع الكمال، او احتكار الصواب، او بلوغ سدرة المنتهى، او الانطلاق من مخطط جامع مانع ومسبق الاعداد والتجهيز.. بل تركت لنفسها فرصة استلهام طموحات الشعب، واستيحاء متطلبات الامة، واستيعاب دروس التاريخ، وتشريع الابواب كافة امام دواعي التطور والتقدم وفقاً لمعطيات العصر ومستجدات الاحوال، علاوة على استنباط الوسائل والبرامج والآليات الكفيلة بتحقيق الاهداف الاستراتيجية للدولة المصرية والامة العربية.
وكما اهتدت ثورة يوليو، عبر تجاربها وخبراتها الذاتية، الى اهدافها الكبرى ووسائل تحقيقها الناجعة، فلسوف تهتدي ايضاً ثورة يناير بعد استكمال حلقاتها الى مثل ذلك.. ويومها سوف يكتشف قادة هذه الثورة الجديدة ان مصر محكومة بالمطلق ومشدودة تماماً الى ثوابت دورها القيادي، وعناصر امنها القومي، وركائز فكرها الاستراتيجي التي تكاد تكون واحدة ومحددة على مر الازمان، بدلالة تجربتي عبدالناصر، وقبله محمد علي، وبشهادة المفكر المصري المبدع، جمال حمدان في دراسته الموسوعية الفذة والعنوانها >شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان<.
في المبتدأ او المنطلق، هناك فوارق واختلافات بين ثورة يوليو العسكرية، وثورة يناير الشعبية، ولكن في الخاتمة ونهاية المطاف، لا خير في ثورة يناير، ولا نفع منها، ولا طائل تحتها، اذا لم تتوصل الى ذات الاهداف والابعاد التي توصلت اليها ثورة 23 يوليو، حتى ولو اختلفت الوسائل بين وسائل فوقية وتسلطية ومركزية، واخرى تعددية وشعبية وديموقراطية.. فمصر اليوم، شأن مصر الامس، في اشد الحاجة الى التنمية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الوطنية، والهوية العربية، والتحرر من الاستعمار والتبعية، والقضاء على الفساد، وبناء الدولة القوية المدنية وليس الدينية التي اختلف عبدالناصر حولها مع جماعة الاخوان المسلمين يومذاك، وها هي الجماعة تتخلى اليوم، وبعد اكثر من خمسين عاماً، عن تلك الدعوة لاقامة الدولة الدينية.
اوائل عقد السبعينات، اقترف انور السادات خطيئة الردة عن مبادئ ثورة يوليو وثوابتها، وتوهم انه قادر على اجتراح بديل آخر من شأنه تجاوز تلك الثورة وطمس معالمها وانجازاتها، غير انه بعد عشر سنوات من >الثورة المضادة< التي تمثلت في مصالحة اسرائيل، ومحالفة امريكا، ومحاربة القومية العربية، وقتل التجربة الاشتراكية، واطلاق غول الجماعات الاصولية، سرعان ما انتهى الى مأزق حرج وجدار مسدود وافلاس سياسي واجتماعي لم ينقذه منه الا حادث المنصة المعروف.
بعده جاء دور حسني مبارك في تكريس نهج الردة عن ثورة يوليو، وتمتين وشائج التبعية لامريكا واسرائيل، وبيع مصر لرجال الاعمال، وحبك المؤامرات على شرفاء العرب، وغض الطرف عن جيوش النهب والفساد، والغاء الدور القيادي لبلاده على كل صعيد، والتفريط بكل المقدرات المصرية حتى مياه النيل.. وها هو قد باء بسوء العاقبة وذل الختام، بعد ان خلعته ثورة يناير الباسلة، والقت به الى قعر الهاوية وعار التاريخ.
وعليه.. فحتى لو اعرضت قيادات ثورة يناير عن خط ثورة يوليو ومسارها وافكارها، وحتى لو حاولت استنباط افكار اخرى ودروب مختلفة، فهي بالقطع واليقين لن تأتي متناقضة مع ادبيات ثورة يوليو واستراتيجيتها، ولن تكون منسجمة او متماثلة مع اطروحات الردة والثورة المضادة التي ابتدعها ثنائي السادات - مبارك، ولن تبتعد عن حقائق المشروع النهضوي المصري المحكوم بضوابط الجغرافيا والتاريخ التي اهتدت اليها ثورة يوليو حين اختارت في كتاب >فلسفة الثورة< الانتماء الى الدوائر الثلاث.. العربية والافريقية والاسلامية.
وبعد.. تحية الى >ام الثورات< العربية في ذكرى انطلاقتها السنوية التاسعة والخمسين، واهلاً ومرحباً بثورة شبان يناير الاحرار ماداموا يناهضون عهد الردة، ويتلمسون درب العزة والكرامة والحرية، ويرفعون رايات العروبة والنزاهة والعدالة الاجتماعية، ويرفضون الامركة والصهينة والتغريب، بمثل ما يرفضون الوقوع في حبائل السلفية والرجعية والدولة الدينية !!
23 يوليو.. ام الثورات العربية
أخبار البلد -