دأبت الحكومات الاردنية ان تستظل تحت عباءة الملك للاختباء من أي مساءلة والاتكاء الى القصر تارة او الاجهزة الامنية تارة اخرى لشن الهجوم المضاد باتجاه المنتقدين او المعارضين ثم تطور الاسلوب الى اعتماد الهجوم الاستباقي للقضاء على أي تحرك من الممكن ان يزعج شهر العسل الحكومي خاصة انها تومن كما نؤمن جميعا انه شهر قصير في ظل التغييرات الحكومية المتعاقبة والمتكررة.
لقد اعتادت الحكوماتعلى اعتبار كتاب التكليف السامي هو برنامج عمل الحكومة الذي تتقدم به الى البرلمان وبالتالي اصبح جواز السفر الذي تعبر به العقبة الاولى بانتظار ان يحلها مئة حلال في العقبات التالية. وتتوالى العقبات وتحل الاولى بالهبات والثانية بالزيارات والثالثة بالعشائرية والرابعة بالمحاصصة والخامسة بالاستجداء والسادسة بالأغلبية الحرجة ... الا ان تأتي العقبة الكبرى حيث استنزفت جميع الحلول فمن كان قادرا من النواب على حلب الحكومة شعر ان الضرع يبس ومن كان محروما نادى بقطع الضرع عندها تترنح الحكومة شيئا فشيئا وتنحني طواعية الى المذبح ليكون اكرام الميت دفنه.
رحلت الحكومة وجاءت اخرى مختلفة، رجل نظيف، ايادي بيضاء، فكر متقد، ثورة الشباب، حكمة الشيوخ، كفاءة الطاقم الوزاري، قاعدة عريضة، ارادة التغيير...... صفات جميله تنتشر في الصحف وفي الدواوين وعلى موائد العزاء. تقدم الحكومة كتاب التكليف مرة اخرى وتحصل على الاغلبية وتدخل في دورة القوة فالاستقرار فالاسترخاء ثم الترنح واخيرا تجر الخطى المتثاقلة نحو الاستقالة.
عندما تدخل الحكومة مرحلة الاستقرار والاسترخاء تبدأ الالسن والاقلام والفيس بوك والندوات التحفز للانقضاض عليها وتشعر وكأنها وسط حلبة تتقاذفها كرات من كل حدب وصوب حتى تفقد التركيز في تحديد مصدر اللكمات فتضطر للضرب العشوائي باعين مغمضة قبل السقوط. سيتدافع الجميع لدفع النعش فمنهم المظلوم والمحروم والمتشفي والموعود بالإرث والمتحمس لدفن الاخطاء واغلاق الملفات ومنهم من باع واشترى وحلب وجلب ولبس قفازيهالجديدتين بانتظار الضرع القادم عندها تشعر الحكومة بانها رحلت بخزية وتركت عارا.
هذه الصفات للحكومات الاردنية وان كانت غير مطلقة الا انها عامة ولكن اين يكمن السر في هذه الدورة العجيبة التي ربما تكون مدتها لا تزيد عن اشهر.
ان كتاب التكليف للحكومة هو رؤى ملكية لما يجب ان تفعله الحكومة وبالتالي فهو اهداف وغايات وليس برنامج اذ ان الملك لديه طموحات يتطلع الى تحقيقها من خلال الحكومة وعلى الحكومة ان تضع الخطط والبرامج والسياسات لتحقيق هذه الأهداف وليس من المعقول منها ان تنتظر الملك ليقوم بنفسه بأعداد الخطط او التحقق من تنفيذها. ان النزاهة السياسية تستوجب على الحكومة ان تقرأ الرؤى الملكية ثم تقرر هل تستطيع تنفيذها وتقبل التكليف او انها غير قادرة على ذلك وتعتذر. الا ان الحكومة تلتقط التكليف بتلهف واعدة الملك والمجلس والشعب بتنفيذ الرؤى الملكية تاركة الوفاء للزمان وتطور الاحداث على اساس ان قيمة الفرصة (الوزارة) تحتمل المخاطرة اذا كانت المخاطر فعلا متوقعة.
وعلى ارض الواقع تحمل الحكومات كتاب التكليف ويتم توزيعه على الوزراء كل حسب اختصاصه طالبة منهم تنفيذ الاهداف ليبدأ حديث الانشاء والكلمات والعبارات الجميلة ليطرح البيان الوزاري على المجلس متضمنا سيلا من الوعود والجمل وتكون اكثر الكلمات شيوعا :سوف ،سنقوم ،ستعمل، ايمانا منا، التزاما، مجلسكم الكريم، الشفافية، تساوى الفرص، العدالة.......
يتقبل النواب البيان كالعادة تحت تأثرات متعددة منها الوعد، والامل، ضعف الخبرة، التحالفات، احتراما للاختيار الملك، البلد ما تحتمل، مصلحه وطنية، الرجل ناوي يعمل، وعد خيرا، ... دون ان يكون هنالك تقييم حقيقي لبرامج الحكومة وهل تستطيع فعلا تنفيذ تلك البرامج اذ ان الخطة بلا طريق هي حلم بلا تنفيذ ويتم الحكم على البيان من خلال المنح التي يوهبها الرئيس للنائب او لمنطقته.
كل هذه الاسباب ادت الى ان تخذل الحكومات الرؤى الملكية او انها تقف عاجزة عن تحقيقها وامثلة ذلك كثيرة وربما لا يمكن حصرها. فالانتخابات النيابية التي اراد جلالته ان تكون مثالا يحتذى بين جميع دول العالم وطلب من الجميع احترامها وتنفيذها بأعلى درجات الشفافيةوالعدالة عملت الحكومات على تشويها ولم تكن مؤتمنة عليها واصبح التلاعب بالانتخابات والتزوير حديث الشارع حتى ان الناخب اضاف الى قاموسه السياسي مفردات جرت على كل لسان (الاسماء معروفه، الي بدها اياه الحكومة ينجح، الصناديق جاهزة، لا تتعبوا الاسماء زمان طلعت) ويصر الكثير على انهم يعرفوا الاسماء قبل الانتخابات وانهم سمعوا ذلك من مصدر مطلع. ان كانت هذه الاقوال صحيحه او مبالغ بها الا انها لم تأتي من فراغ وانها اضحت موروث صنعته الحكومات المتعاقبة.
والسكن الكريم كان حلم جلالة الملك في غطاء الفقراء وفي ستر العيش للمحرومين وامل الذين عاشوا العمر يفترشون الهم وتكسوهم ذلة الحرمان والنظر ليجدوا نقطة ضوء من قلب الملك. الا انه حدث ما حدث حتى ان المواطن نسي قيمة المشروع واهدافه النبيلة لتقفز الذاكرة مباشرة الى الفساد والتجاوزات التي حدثت، فمن هو المسؤول عن هذا الاحباط.
والمنطقة التنموية التي أمر بها جلالته ثم وعود الحكومة بفرص العمل والاستثمارات المتوقعة لنكتشف ان راتب احد المدراء في تلك المنطقة عشرات الالاف ليدخل الحلم مرحلة الوهم. ومصنع روفر الذي جاء بمبادرة ملكية عام 2001 ليكون نقطة انطلاق تكنولوجيا السيارات في الاردن وتنمية معان والاستثمار ومع مرور الزمن تبتلع الحكومات المشروع وينتهي الأمل مثلما انتهت كثير من الدعوات لتشجيع الاستثمار الاجنبي تحت وطأة الترهل الحكومي ووضع العراقيل امام المستثمر ليهرب بعد ان يخيب ظنه وتسرق جيوبه. ولمياه الديسي حديث طويل فبعد ان أمطرت الاحلام العاصمة عمان ووضعت الانابيب على الطريق بأطول من صبر الاردنيين وتشدقت الحكومات واستهلكت الصحف حبرا اكثر من مياه الديسي نسمع ان الافواه الجشعة جففت الابار وان البطون المستكرشهابتلعت الحلم وضاعفت كلفت المشروع.
وحتى اقوات الفقراء لم تسلم من ترهل الحكومات وفسادها فسرقت دواجن وزارة الزراعة وبدلت الاغنام وتغول موظفون صغارا على المال العام لأن الفساد استشرى في الطبقة الاعلى فالطفل يبدأ الرقص على طبل ابيه.
هذه امثله قليله وبسيطة وهنالك مئات الامثلة على خيانة الحكومات لبيانها الوزاري ونكثها بوعدها للملك وللمجلس وللشعب وعدم طرحها لبرامج فعليه قابله للتقييم والمحاسبة وهي امثلة ايضا على ضعف المجلس وعدم وفائه والتزامه بمساءلة الحكومة وتصحيح مساراتها. ان ما جرى وفي ظل ما يجري من حراك سياسي يحتم ان تتجه الحكومات الى اعداد برامج ويتم تصويت المجلس على تلك البرامج وتقييمها بشكل دوري وتحاسب على تنفيذها قبل وبعد الرحيل والا سنبقى نستقبل عروسا ثم نشيع جنازتها بعد اشهر ونكتشف انها سرقت بيت الزوجية.
بين اداء الحكومات والرؤى الملكية
أخبار البلد -