أخبار البلد - رقية القضاة
} بوابة الشام تفتح لجيش النبي صلى الله عليه وسلم ،وهو يدلف إليها عبر الصحراء الممتدة مابين المدينة المنوّرة إلى تبوك وذلك في مستهل شهر رجب ،من السنة التاسعة للهجرة النبوية الشريفة ،والنبيّ صلى الله عليه وسلم يدرك بعد الشقّة ،وطول السفر، وشدّة الحرّ ،،فيبيّن وجهته للنّاس ليستعدّوا بما يستطيعونه من قوّة ومتاع وركوب ،ويأتي عثمان بن عفاّن رضي الله عنه بما يمتلكه ليضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم،ليجهز به جيش العسرة، ويأتي الصدّيق رضي الله عنه بنصف ماله،وتتسابق المسلمات بتقديم ما يمتلكنه من مال وحليّ في سبيل الله
وفي مدينة النبيّ قلوب كسيرة وعيون تفيض من الدمع ،يحزنهم ألّا يجد رسولهم ما يحملهم عليه ،وهم لم يعتادوا التخلّف عنه في غزوة غزاها ،يتولّون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعينهم تفيض من الدّمع ألّا يكونوا في طليعة جيش النبي مع أصحابهم وإخوانهم ،يحبسهم الفقر، وقلوبهم ترافق الحبيب في مقصده،وقلبه معهم يشهد لهم بصدق الإيمان وصدق النفرة وصدق الولاء لله ولرسوله
وفي المدينة منافقون تخلّفوا بالأعذار الكاذبة ،ويتعللون بالخوف من الفتنة وقد سقطوا فيها ،وياذن لهم النبيّ بالتخلّف عنه وقد أدرك كذبهم وعرف نفاقهم ،فلم يحزنه إركاسهم ،ولم يفتّ في عضده تخاذلهم
وفي المدينة ثلاثة نفر تخلّفوا كسلا وركونا إلى الدعة ،وهم هلال بن أمية ،ومرارة بن الرّبيع ،وكعب بن مالك ،وما في قلوبهم نفاق ولا ريبة ،ولااستخفافابأمر نبيّهم ولكنها الدنيا حين تستميل القلوب ،وتعدها بالراحة والدعة ،ويحدّث كعب بن مالك نفسه ساعة بعد ساعة باللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم يقعد عن ذلك حتى أبتعد الجيش أميالا ،وأغرب في ارتياد الصحراء اللاهبة ،وطوى البيداء قاصدا وجه الله ،داعيا إلى الحقّ،ومستبقا خطوات العدو المتربص في بلاد الشام وغيرهامن القوى المحيطة بدولة الإسلام التي بدأت ترسم على وجه الكون ملامحها وتنشر عليه رايتها العادلة
وأظلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا من غزوة تبوك ،وبدأ بالمسجد مصليّا كعادته كلما عاد من سفر ،وأقبل المخلّفون على النبي يحلفون ويعتذرون، فقبل منهم ووكل سرائرهم إلى الله ،وجاء كعب بن مالك ،الصحابيّ الشاعر الصّادق الذي لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الا يوم بدر، وقد كثر فيه المتخلفون لعدم معرفتهم بأن هناك حربا ستقع،
امّاهذه الغزوة فقد عرف كعب بامرها، وأدرك مشقتها ووعى أهميتها ،وقلّب الشاعر الصّادق وجوه الأعذار، فإذابها كّلها تمر من بوابة الكذب القبيحة، فآلى ان ّلا يكذب نبيه القول ،فأتاه وجلس بين يديه، فتبسّم له الّنبي المحب المشفق تبسم المغضب قائلا:ما خلّفك؟ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟وتنطلق كلمات الصدق من اللسان الصادق وقد أيقن القلب المرهف ان الصدق منجاة فقال :والله ما كان لي عذر ،وما كنت أيسر مني حين تخلفت عنك .
وتنطلق الكلمات المنصفةالعادلة ،أمّا هذا فقد صدق،فقم حتّى يقضي الله فيك ،وتسري الأوامر النبوية المطاعة في المدينة بمقاطعة الثلاثة الذين خلّفوا دون عذر،وكعب يصلّي في المسجد الصلوات الخمس ،ويردّ السلام على الحبيب فلا يدري أتحركت شفتا النبي بالردّ أم لا
خمسين ليلة مرّت على كعب وصاحبيه،وقد وجفت قلوبهم، وذابت أكبادهم شوقا لمحادثة رسول الله ،والأصحاب الأحبّة
،وترد على كعب الدعوة من ملك الغساسنة، يدعوه فيها إلى القدوم عليه معزّزا مكرما ،وكان له مقدّرا ولشعره ذوّاقا ،فلا يجد كعب في هذه الدعوة إلّا امتحانا جديدا وبلاءثقيلا ،فيحرق الرسالة رافضا أن يترك مدينة فيها حبيبه وصفيّه ونبيّه
ويطلع فجر الليلة الخمسين وكعب يصلّي على سطح منزله ،وإذا الفجر يطلع ببراءة القلب التقيّ من النذفاق ،وبالتوبة الخالصة على الرّوح الصافية،ويخفق القلب الحزين برنّة الفرح في صوت البشير الصارخ :يا كعب بن مالك أبشر}
ويتامّم كعب مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس له مهنئين بتوبة الله عليه وعلى صاحبيه،وينظر كعب إلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم ،وقد أضاء بالفرح،يبرق من السرور ،ويقول:{أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك{
وينسلخ كعب بن مالك من ماله إلى الله ورسوله ،فرحا بتوبة الله عليه فيأمره النّبي ان يمسك عليه بعض ماله ،فيقول كعب :يارسول الله إنما أنجاني الله بالصدق ،وإنّ من توبتي ألّا أحدّث إلا بصدق ما بقيت ،والله ما علمت أن أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني والله ما تعمّدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ،وإنّي لأرجوالله تعالى أن يحفظني فيما بقي} {ربنا هب لنا لسان صدق ومقعد صدق عندك يارب العالمين)