إحذروا التقارير الوردية
أجود عتمة
قيل ما أن لفظ عرش الشاه أنفاسه الأخيرة وتدحرج تاج الدر عن فروة رأسه ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وغلقت أمامه أبواب الدنيا بأسرها وأيقن وقتئذ انه صار خارج التغطية ، فلم يدر حينها كيف يهتدي إلى بقعة ضوء تأويه في ظلمات البر والبحر بعد أن جرف طوفان السخط الشعبي بقايا أركان حكمه ولفظه إلى عراء السياسة وصحراء الملك . فطفق يخصف دموعه على سوءة ملك مضاع ويستجدي القريب والبعيد ويقرع أبواب الرجاء للحلفاء والأعداء لينفذ بريشه من القارعة التي سقطت على رأسه دون استئذان وفتت زمرد تاجه الذي ظن انه سيقوده إلى الأبدية ، فجاء بصيص الفرج الذي قاده إلى ارض الكنانة ليكون الرئيس السادات على رأس مستقبليه وحاضنيه .
وما أن ترجل الضيف عن سلم طائرته حتى بادر مضيفه بعبارة ذهبية " احذروا التقارير الوردية التي طارت بي إلى كنانتكم " ، وهو يرمي إلى التقارير التي يخُطها الحُجّاب ورجالات الحاشية لرئيس الدولة والمرصوفة بعبارة يتيمة " إن البلاد والعباد بألف خير والشعب لا ينقصه سوى تقبيل أيادي الإمبراطور والتقاط الصور التذكارية معه .... " . في الوقت الذي يكون فيه الفقر والفساد وبخُبث من قادة عظام حول النظام ينخر ويُسرطن عظام الدولة حتى النخاع .
تراجيدية المشهد التي مضى عليه أكثر من ثلاثة عقود تعود مكرورة الإسقاط على بعض الأنظمة العربية التي لم تقرأ بعين البحث والتحليل والتدقيق النصيحة الذهبية لصاحب العرش الذهبي ، ولم تأخذ بجديتها لإنشاء دروس يستدرك بها أخطاء وعثرات أداء تلك الأنظمة في التعامل مع حاجات شعوبها وقضايا أوطانها سعيا لتحييد سفينة النظام مغبة الارتطام بصخور الشعب .
واجزم في خضم هذه الحالة أن أي نظام في الدنيا يعنيه أول ما يعنيه تأييد وموالاة شعبه له حتى يبقى الربان الحاذق في قمرة قيادة وطنه ليدفعه في مسارب مأمونة نحو شواطئ آمنة . والجزم أعمق بان بطانة ذلك النظام وحُجّابه هم الذين يتخذونه حديقة خلفية غنّاء وصراف آلي بمبالغ فلكية لهم ولأبنائهم وزوجاتهم ومحاسيبهم وحتى خادماتهم، ويتوالدون عائلات ريعية طُحلبية تنبري لإقامة جدار عازل بين النظام ورعيته ويسعون يائسين بائسين وبطرق سوقية لتقريب البعيد من المسيئين والمناوئين للوطن والنظام وإغداقهم بالأعطيات والمكاسب المادية والأدبية بُغية كتم أنفاسهم وقطع السنتهم وشراء صمتهم بل وتكسير أقلامهم ، وليس ذلك حرصا على الوطن أو حفاظا على وليّ النعمة بقدر ما هو الخوف من ليّ عنق النعمة المغدق بها أزلام الحاشية العتيدة ، وكل ذلك تحت عنوان احتواء المعارضة ، وهو ولاء بجواز سفر مؤقت ينتهي بزوال بركات النظام .
وتبقى سذاجة فعلتهم مستمرة دون إعارة السواد الأعظم من المخلصين المؤمنين بوطنهم وقيادتهم التفاته ولو بطرفة عين من الحظوة والاهتمام لقناعتهم أن هؤلاء مضمونين في الجيبة ، بل يعتنقون منهجية تيئيسهم ورفع مستوى شحنات الاحتقان لديهم وإبقائهم مطولا على رصيف النسيان وقارعة التهميش وهوامش الفتات . رغم أن هذا السواد هم احرص وأجسر من يقبض على جمر الوطن وهيبة نظامه دون مكاسب فردية ، بل همهم وحلمهم العدالة والمساواة والاطمئنان إلى كرامة حاضرهم ومستقبل مأمون لكل الأجيال .
وهنا تبدأ أقاصيص علاقة الشعب برأس النظام . ليكتشف الأخير بعد انقشاع نرجسية وسَكرَة الحُكم أن الفساد والإفساد استحكم في بر الوطن وبحره في صحرائه ومائه ليمتد هذا النخر إلى نواة هيبة الدولة ، وكأنه وبطانته يتفيئون ظلال كوكب المشتري والشعب يتلوى على أطراف كوكب زحل، ما يستدعي لإعادة بناء وتبادل الثقة والتواصل إلى مراكب فضائية لم تصل إلى تطورها أرقى الصناعات الفضائية .
ثم تتبدى فصول جديدة في مشهد العلاقة بين ضلعي الشعب والسلطة في مثلث الدولة. فالشعب يتمسك بمظلة النظام وتسعى فئات مخلصه منه تدعو لإصلاح الخلل في بنية النظام والاختلالات في أدائه وكشط الدرن والتقيحات من حوله ودعوة الحكومات بصوت عال لذبح بقرة الفساد والحكومات غير مبالية ترد عليهم إن البقر تشابه علينا فذبحوها زيفآ وما كادوا يفعلون . ثم تجمح الحاشية في إيهام وشحن رأس النظام بان هذه الفئات شرذمة ليست ذي شان أو فعل أو تأثير وهي تسعى لقلب نظام الحكم .
ومعها تبدأ لعبة شد الحبل وقرع الطبل ، فيصاب النظام بالعمى السياسي ويبدأ دون أخلاق مرعية بالمعالجات الأمنية للحالة الشعبية لتصل إلى حد القصف بالمدفعية والدبابات والطائرات , وكأن هذا الزعيم الأوحد والاستثنائي والحاكم بأمر الله أصبح اليوم حاكم لعدو لدود ألا وهو الشعب .
وتظهر هنا صورة جلية لرؤوس تلك الأنظمة الهرمة وهي غير قادرة على إدارة الأزمة لاستفحال أزمة إدارة شعوبها . وما يزيد الطين بلة استحواذ زوجات ذينك الرؤساء على مفاتيح الحكم واحتقان السم في رؤوسهن للعبثية الأنثوية الهشة بأدوات الدولة بإيحاء شيطاني من دوائر خفية أو خبثاء البطانة السيئة وإقناعهن بمحورية دورهن في التشاركية في قرارات الحكم ومحاصصة رأس الدولة في كثير من مكاسب الدولة والزعم على إعادة إحياء عظام الحكم وهي حكماً صارت رميم . وعلى الجانب الأخر من مشهد الانهيار الحلزوني يسعى أزلام الحاشية لتقديم وصفات منتهية المدة وذلك بإقناع رئيس الدولة المتهالك بضرورة تعاطي الفياجرا السياسية ليظهر في مشهد النظام انه في عنفوان حكمه وانه قادر على استمرار الممارسة ، لكن سرعان ما تذوب قيمة هذه الوصفة لينكفئ إلى مربع العجز السياسي .
لتظهر الآثار الجانبية لهذه الوصفات من أُميي السياسة على شكل جلطات سياسية في أتون النظام لتكون النتيجة إما الموت السياسي المتسارع في يوم لا ينفع فيه مال المميعات ولا بنين الصدمات الكهربائية ، أو جلطات تصيب أطراف النظام بالشلل لتطال هذه الحالة أطراف الدولة برمتها ليعود معها الشعب إلى المربع الأول في بناء مستقبل دولته وهيبة نظامه وهتافه يملأ الميادين الشعب يريد إسقاط النظام الذي لم يحذر التقارير الوردية .