قديما قيل "لو نظر الناس الى عيبهم ... ما عاب انسان على الناس" ، هذه العبارة تنطبق على شعوبنا العربية في مختلف اقطارها ، والاردن من بينها ، ففي ظل موجة الحرب على الفساد والفاسدين والمفسدين ، التي نعيشها منذ شهور ، كقضية وطنية اولى ، نبحث فيها عن الفساد ورموزه بين فئة الحكام والمسؤولين ، يصح فينا القول المأثور اعلاه ، لان الفساد في كل مكان ، وتمارسه الاغلبية العظمى من شعبنا ، ضد نفسها ، وكل منا ضد الاخر ، طبقا لشعار اشتراكي ، رددناه في خضم المد القومي واليساري ، قبل عقود خلت ، امنح نفسي الحق بتحريفه ليصبح "فساد للي يزرعوا ويعمل به ... والكل يوخذ حسب مجهوده" .
فساد المواطن وفساد المسؤول ، كل منهم يؤذي المواطن والوطن ماديا ومعنويا ، فساد مسؤول واحد قد يعادل في ضرره ، فساد الاف المواطنين العاديين ، لكن الجمع التراكمي لفساد المواطنين ، وامتداده افقيا قد ترجح الكفة ، فساد المسؤول سيتحدث عنه الجميع ، سواء احتقارا له ، او اعجابا ب "فهلوته" ، اما فساد المواطن ، المتداخل مع كل مجالات حياتنا ، فيصبح امرا عاديا مألوفا ، لا يستحق الالتفات اليه ، نتعامل معه كامر طبيعي ، لا بل نختلق له مبررات ، وقد اصبحت تبريراته جزءا من ثقافتنا ، بماذا يختلف وزير واحد ، سرق مليون دينار من المال العام ، عن مليون مواطن ، سرق كل واحد منهم دينارا واحدا من هذا المال ؟ اليست النتيجة واحدة ؟
عندا يمارس مستشفى الاهمال والتقصير القاتلين ، وتلجأ ادارة المستشفى لممارسة الكذب لتبرير ذلك ، وتسحب الوثائق من ملفات المريض ، لاخفاء الادلة ، وتمارس الضغط على الاطباء والممرضين ، كي لا يصرحوا بالحقيقة ، فهذه ممارسة للفساد ، وعندما ياتي مندوب صحيفة ليتولى نشر هذا الكذب في صحيفته ، ويشوه الحقائق ، ولا ينقل راي الطرف الاخر ، فهو يمارس الفساد ، وعندما يعتدي معلم مدرسة على طالب ، يؤذيه فيدخل المستشفى للعلاج ، ويرفض اهله اسقاط حقهم ، يلجأ المعلم الى طبيب ، ليحصل على تقرير طبي بتعرضه ايضا للاذى ، ويتحول الاعتداء الى مشاجرة ، فهذا فساد مارسه المعلم والطبيب ، وعندما يرفع التجار الاسعار الى اضعاف ، ويتحايل السائق على الراكب لكسب بعض المال ، ويعرض تجار الاسكان حياة المواطنين للخطر ، بالغش بالبناء لكسب المال الحرام ، وعندما يتحرر صاحب المطعم من رقابة الضمير ، ويطعم زبائنه سموما ، وعندما يتحايل مدير على الانظمة والقوانين ، لتعيين اقربائه ، ويسرق حقوق الاخرين ، وعندما تتحرك الجاهات ، للافراج عن قاتل في حادث سير ، مدان بكل المقاييس ، تحت ذريعة التسامح ، وتساهم في ضياع حقوق الضحايا ، وعدم ردع المستهترين مستقبلا ، وعندما يغيب الموظف عن عمله ، ويعيق معاملات المواطنين ، اويطلب الرشوة لانجازها ، اليس هذا كله ، وغيره الكثير ، هو من ممارسات الفساد ؟
هذا على المستوى الشعبي الفردي ، ونفس الحال للمستوى الجمعي ، فمختلف مؤسسات المجتمع المدني ، من نقابات واحزاب ، تعاني من اشكال متعددة من الفساد ، وهي التي قامت بالاساس ، لصون حقوق منتسبيها ، فكيف يصبح رئيس نقابة عمالية كبرى ، اختير من خلال صناديق الاقتراع ، وكان موضع ثقة من اختاروه ، كيف يصبح بؤرة للفساد في تلك النقابة ، يسعى لمصالحه الشخصية متجاهلا مصالح منتخبيه ، اليس هذا فساد اشد من فساد المواطن العادي ؟ خاصة ان دوره يشمل ايضا الافساد ، عندما يلجأ لتوزيع المنافع على من يتحالف معه من الهيئة العامة ، وهم يدركون حقيقته ، ويساهم ايضا بافساد ادارات التجمعات العمالية ، التي تستجيب لابتزازه .
وكيف تمارس نقابة مهنية كبرى ، السمسرة في مشاريعها الاستثمارية ، لتنفيع الوسطاء ، من الاقارب والاصدقاء ، وهي ترفع شعار الحرب على الفساد ، وتتباهى بدورها الوطني ؟
كيف يسمح بعض قادة الاحزاب " التي تمثل الشعب " لانفسهم ، ان يمارسوا الفساد المالي ، وارتكاب المخالفات للنظام الداخلي للحزب ، واحتكار قيادة الحزب بشتى وسائل التزوير والتنفيع ، في نفس الوقت التي ترفع فيه شعارات الديمقراطية والحرب على الفساد ؟
لن نخوض في مقولة ، الدجاجة ام البيضة اولا ، اعتقد ان الشعب يتحمل المسؤولية الاكبر عن الفساد ، المسؤولين خرجوا من صفوف الشعب ، وترعرعوا على ثقافة "الفهلوة" ، ونحن من زرعنا هذه الثقافة وخلدناها ، ونحن من سكتنا عن الفساد ، ولم نحاربه حتى بالكلمة ، وهي اضعف الايمان ، لا بل سعينا للانغماس به ، فان لم نفلح اعلنا الحرب عليه ، وكشفنا المستور ، او تناقضنا مع انفسنا ، نمارس الفساد الفردي ، ونهاجم الفساد الرسمي ، المنصب دائما مغر لممارسة الفساد في كل الدنيا ، سلطة وجاه ومال ، فجاءت السلطة التشريعية ودورها الرقابي ، وجاءت منظمات المجتمع المدني ، كلها عيون على اصحاب السلطة ، لكبح جماح انانيتهم وتغولهم ، فكيف يصبح هولاء شركاء بالفساد ؟
هناك نوع من الفساد ، استطيع تسميته "الفساد "الاشتراكي" ، يساهم فيه شريحة كبيرة من المواطنين مع مسؤول او اكثر ، التنفيع فيه يشمل اكبر عدد من الاشخاص ، الموظف في مركز حدودي يقبض الرشوة ، ومسؤوله يراقب "الغلة" عن بعد ، ليضمن عدالة حصته ، ومسؤولين اعلى ، ينتظرون حصصهم ، ويتم فيه تدوير الموظفين بعد فترة زمنية ، لتنفيع اخرين ، ممن لم يتركوا "واسطة" فاعلة ، الا واستجدوها لنقلهم الى حيث "الغلة الوفيرة" ، مثل هذا الفساد ينتشر في اقطار عربية ، ونفتقده في الاردن ، حيث نسمع فجأة عن مسؤول لوحده "لهف" عشرات او مئات الملايين دفعة واحدة ، دون ان ينتفع من فساده اكبر شريحة من اصحاب البطون الجائعة للفساد ، ربما ذلك لانانيته المفرطة ، او عدم ثقته باخرين ، وخشيته من "فساد الفساد" ، اي تخصص التخصص ، وعدم توزيع مكتسبات الفساد بعدالة على الفاسدين .
بعد تجربة متواضعة لي مع العمل العام ، لدورتين متتاليتين في احدى النقابات ، التي يعتبر اعضائها من نخبة المجتمع ، خلصت الى قناعة جديدة مفادها " كان الله في عون حكامنا على شعوبهم " ، اقول قولي هذا ، واستغفر الله لي ولكم .
مالك نصراوين
06/07/2011