الصورة تكاد تنقلب الآن رأساً على عقب...فالجامعات لم تعد تضخ "الخريجيين الأكفاء"...والسوق يشكو من نقص العمالة الماهرة...وأخلاقيات المهن و"ضمائر" أصحابها، باتت موضع شك وتساؤل وشكوى...ما أن يغادر "المواسرجي" حمام منزلك أو مطبخك، حتى تبدأ المياه بالسيلان، والمجاري بـ"الطوفان"...ما أن يغادر "البليط" ساحة البيت، حتى تكتشف أن ليس لهذه البلاطة صلة بـ"زميلاتها"...ما أن يغادر "الكهربحي" المدجج بـ"قذائف السليكون" باب الدار، حتى تبدأ "اللبمات" و"الأباريز" بالتساقط والاحتراق، الواحد تلو الآخر.
قبل أسابيع، زارني في مكتبي، صبيتان تبحثان عن عمل...أرسلهما أحدهم لأنهما خريجتا علوم سياسية من إحدى جامعاتنا "الجيدة نوعاً"...طلبتا مقابلة، فلم أجهد نفسي، سألتهما عن اسماء رؤساء السلطات الثلاث، فارتبكتا...سألتهما عن اسم رئيس الحكومة، ضحكت إحداهما وأجابت الأخرى، الأكثر نباهة على ما يبدو: زيد الرفاعي ؟!....سئمت مقابلة الخريجين الجدد الذين يأتونك بكشوف علامات عالية، من دون أن تعني شيئاً على الإطلاق.
وقبل أسابيع أيضاً، انعقدت على الشاطئ الشرقي للبحر الميت – كما يحلو لزميلتي أن تقول - ورشة عمل مختصة، لتقييم مستوى وسوية البحوث الاجتماعية، وبالذات في حقول "الجندر" في الأردن، ولقد قيل لي أن المشاركين أجمعوا على أمرين اثنين: الأول، غياب الباحثين الجديين، وهذا ما لمسناه على أية حال في كثير من التجارب...أما الثاني، وهو الأهم والأخطر، فهو غياب المناقبية "المهنية" و"الأخلافية" عند كثير من هؤلاء، الذين ما أن يمضي أحدهم عقداً مع هذه المؤسسة أو تلك، حتى يبدأ رحلة البحث عن عقد آخر ومؤسسة أخرى، فتأتي نتائج أعمالهم من طراز "الفاست فوود"، في أحسن الأحوال، لا تغني ولا تسمن من جوع...واحيانا ضررها أكثر من نفعها.
استذكر تجربة "البرنامج المغدور" الذي قدمته على شاشة التلفزيون الأردني قبل سنوات، وكيف كنّا نمضي ساعات في البحث عن "متحدثين" مختصين في المسائل الإقليمية، لدينا فقر شديد في مجال العلوم السياسية، برغم كثرة "الأساتذة" على هذا الصعيد..حاولوا أن تتذكروا معي كم خبير في الشؤون الإسرائيلية لدينا...كم خبير في الشؤون التركية...كم خبير في الشؤون الإيرانية...إلى غير ما هنالك من مجالات وميادين...الجميع خبراء في كل شيء...والندرة النادرة، تبدو اختصاصية في حقل من حقول المعرفة.
حتى الحصول على سكرتيرة أو سكرتير محترف، تبدو مسألة عصية المنال...حيثما تذهب تسمع الشكوى المرة...لا احتراف ولا إخلاص ولا تركيز...كل شيء "ينجز على عجل"، لا يحب أحدنا أن يتقن عمله...تبدأ السكرتيرة/ السكرتير بإرسال نسخ عن سيرتها الذاتية صبيحة اليوم التالي لتسلمها وظيفتها أو وظيفته...الكل يطارد حظه ومستقبله وفرصته، والفرص شحيحة على العامل ورب العمل.
والحصول على "مراسل محلي" للعمل في مكتب، يبدو أمراً متعذراً حد الاستحالة...ومن منّا يحاول الاستجابة لشعار "أردنة العمالة" وإحلالها محل العمالة الوافدة، عليه أن يجرّب حظه مع هذه الفئة، ليرى كم من الصعب إنجاز مهمة كهذه...هم يفضلون أنماطاً أخرى من العمل، حتى وإن كانت أقل دخلاً واستقراراً، على أن يضطروا للقبول بوظائف مصنفة في "ثقافة العيب" متدنية اجتماعياً، وثمة سيل لا ينضب من القصص والحكايا في هذا المضمار.
وحدها القوات المسلحة، ما زالت تحتفظ بـ"مستودع بشري ضخم" من الكفاءات، في مجالاتها العسكرية والقتالية وفي معظم ميادين الاختصاص...نأمل أن يشكل ذلك بداية استدارة، يمكن البناء عليها، لاستعادة "صورة العمالة الأردنية"، كعمالة كفوءة ومهنية وأخلاقية بامتياز....نأمل أن نعيد الاعتبار لشعارنا الأشهر: "الإنسان أغلى ما نملك".
«الإنسان أغلى ما نملك»
أخبار البلد -
في بلد لا نفط فيه ولا ماء، كان للعنصر البشري دور حاسم في تعظيم "القيمة المضافة" في الاقتصاد والعمران والاجتماع والسياسة والثقافة...وظل الأردن لأزيد من ثلث قرن، يباهي الجوار الشقيق والصديق، بفرادة عمالته وكفاءة معلميه ومتعلميه...وقاد ذلك إلى زيادة الطلب على الأيدي العاملة الأردنية في الأسواق الجاذبة للعمالة، وثمة مئات وألوف الحكايا و"قصص النجاح" الأردنية، في طول البلاد وعرضها وعلى امتداد دول الهجرة والشتات...لقد صنع الأردنيون من "لا شيء" تقريباً، بلداً حديثاً وعامراً يفاجئ إيجابياً، لقد أحالوا ندرة الموارد وشحّها إلى حافز للاستثمار في "الإنسان أغلى ما نملك".