بوضوحٍ جارحٍ، وصوتٍ مُرْتفعٍ لا انحناءَ فيه، سأقولُ:"لم يعُدْ لي لزوم"!
لسْتُ مازوشيا، يا أصدقائي، ولم يحدث في سيرةِ الألم لديَّ أنْ استهنتُ بإيذاء نفسي، كأنْ أخبركم على الملأ أنَّني طفلٌ عاجزٌ أقومُ بأفعال مُحْرجةٍ بشكل لا إراديّ، كما لم يحدث في ذاكرة الوجع المحسوس أنْ حاولتُ خدْشَ جسدي، فكنتُ لما أجرَحُ سالفي عفوا أثناء الحلاقةِ، أفزعُ كمريض يصحو وسط العملية الجراحيَّةِ المُعقدة!
كنتُ دائما صندوقا فاخر النقوش، أتمتَّعُ بقيافة تتميَّزُ بديمومة اللمَعَان، ولديَّ مهابَةٌ تصلحُ لكلِّ الظروف والمواقف، إلا أنَّ أبرزَ ما كان يُثير غيرة الآخرين تجاهي أنني كنتُ محكمَ الإغلاق لا يمكنُ أن أكونَ مُشرعا إلا في حالة سقوطي..، وقد سقطتُ الآن بجلل وقوع "الصندوق الأسود"!
لم يحدث ذلك دفعةً واحدةً، احتاجَ الأمرُ لسنوات حتى أستوعب مفهوم "الخصخصة"، وأدركَ أنَّهُ يعني (ببساطة بها شيءٌ من التعقيد) أنَّ الدولة استعجلت اختبار قدرتي على التحمُّل وعُودي بأوَّل اخضراره؛ تماما كأنْ يبيع والدي منزلنا (ونحن قيد البلوغ) ويدفعنا لاستئجاره من المالك الجديد!
أفرغتُ جيبي، ومَحوْتُ كلَّ ما ادَّخَرْته لابني البِكر في "دفتر التوفير"، وصارَ رصيدي الجاري في البنك يضمرُ، لمصلحة تعدُّدِ جنسيَّات الشركات. أمسَيْتُ كائنا مستقبلا لكلِّ الخطوط غير المستقيمة لموضة الملابس، وأنواع الهواتف المحمولة، والسيارات المتواضعة السعر قبل عبور الجمارك..؛ حتى بتُّ أتناول الإفطار بأجبان دنماركية، ومعلبات بقولية صينية، بالزيت البلدي!
اقترضتُ من البنوك قرضا غليظا لشراء شقة على هيئة علبة "السردين"، وآخر أرفع قليلا لتغطية نفقات دراسة الأبناء (لأنَّ المدارسَ الحكومية تُعْنى أكثر بتعليم الطلبة فنون القتال، مقابل حصة واحدة خارج المنهاج للدفاع عن النفس)، وقرض ثالث يسيرٌ جدا لسداد فواتير الهاتف والكهرباء والماء والإنترنت المحدود السرعة، وراتب عاملة آسيوية تُشعِرُني أنني ربُّ عمال أحظى باحترام شديد!
أقنعتني الدولةُ (بالتي هي أحسن) أنَّ الضرائبَ من مصلحة الاقتصاد الوطني، وأنَّ التهرُّب منها تهمة لا تقلُّ خيانةً عن الهروب من الخدمة العسكرية؛ وهكذا حرصتُ على ممارسة وطنيَّتي كلما ذهبتُ إلى البقالة لشراء سلعة مشمولة بضريبة المبيعات، وكلما تحدثتُ أكثر عبر الهاتف، أو احتاجت سيارتي إلى "البنزين" الخاص كنوع من الترف، ولا يكونُ هذا آخر ما أدفعه، فمسيري وفقَ قواعد السير الصارمة قد يكلفني مخالفةً (غير صريحة) على السيارة المديونة!
دفعتُ نقودا كثيرةً لا أعرفُ أين ذهبت (وأقسم أنَّني لم أكترث يوما للإجابة على هذا السؤال، وفضَّلتُ أنْ أكونَ مواطناً ساذجاً يُسارعُ لشدِّ الحزام على خصره النحيل أصلاً، استجابةً للتعميم الرسمي، وواظبتُ على النوم مبكِّرا لتوفير الطاقة، والاستحمام بمواعيد متباعدة للحفاظ على منسوب المياه) ولما لم يتغيَّر الحالُ، خجلتُ من مجرد التفكير أن يكونَ في الأمر "شبهة فساد"!
لكنَّني مضطر للوضوح حتى لو كان جارحاً، فـ"لم يعُدْ لي لزوم"، مجرَّدُ اسفنجة رخوة لسادية اقتصادية؛ فلا أنا ربُّ أسرة مقنعٌ لأولاد يتعلمون في درس الدين واجبات الوالدين، ولا زوج يملكُ جيبا واسعةً لإدارة يوم زوجي واحد يشملُ التسوقَ في "مول" غذائي المحتوى!
قد أخرجُ عليكم، يا أصدقائي، مساء، تحديدا في منتصف الحلقة الأخيرة من المسلسل التركي، أظهرُ بصيغة إعلان صاخب الإيقاع، لبيع مواطنٍ تأخَّرَ عن سداد ضريبة البقاء على قيد الحياة!