التزمت بمتابعة سلسلة حلقات كانت تبثها قناة العربية ، تحت عنوان الذاكرة السياسية ، مع السيد عدنان ابوعوده رئيس الديوان الملكي الاسبق ، والمستشار السياسي للمغفور له الملك الحسين رحمه الله ، ووزير الاعلام السابق . الحديث مع ابو السعيد لم يكن متسلسلا حسب التطور الزمني للاحداث ، وانما انتقال من محطة الى اخرى اختارها المذيع باعتبارها الاكثر اهمية في نظره . وربما طبيعة البرنامج الذي يتحاشى الدخول في التفاصيل التي تشبع القارئ حول الاحداث كالتي تظهر جليا في برنامج شاهد على العصر هي التي فرضت ذلك .
قال ابو السعيد رغم الطبيعة الخاطفة للاسئلة التي تطلب اجوبة مختصره ، قال اسرارا وملاحظات مهمة نظرا لطبيعة عمل الرجل في المخابرات العامة ، ومن ثم سنوات من القرب من الملك الراحل . قال انه نصح بعدم المشاركة في حرب عام 67 ، وبعدم فتح جبهة ضد اسرائيل من الجانب الاردني عندما نشبت حرب عام 73 ، كما تنبأ بمحاولة المنظمات الفدائية السيطرة على الحكم في الاردن عام 1970، و ايد موقف الملك بضرورة طلب مساندة اجنبية عند الضرورة عندما غزى الجيش السوري الاردن عام 70 لمساندة المنظمات الفدائية . كما كان وراء قرار فك الارتباط القانوني والاداري مع الضفة الغربية المحتلة، ووراء اعداد القوى السياسية للميثاق الوطني ، وتشكيل الشريف زيد بن شاكر حكومته الاولى عام تسعة وثمانين .
كل تلك احداث مهمة في تاريخ الاردن الحديث ، وكان الرجل شريكا فيها او صانعا لها ، خاصة بانه اوحى من خلال حديثه في كل الحلقات ، بان الملك الراحل كان يثق به وبارائه السياسية وتحليله للاحداث وتوقعاته التي كانت في معظمها صحيحة . وقد يقول البعض بان الرجل يبالغ في بعض مما قال على الاقل ، وانه يصور نفسه بانه عراب السياسة الاردنية لسنوات طويلة ، وهذا امر لايصدق حسب قولهم خاصة وانه كان بجانب ملك يعتبر من اذكى واقدر القادة في عصره ، وقادر على تشخيص الحاضر بدقة واستشراف المستقبل بعناية ، وقد اثبتت عقود من حكمة هذا التقييم لشخصية الملك الراحل الاستثنائية .
ورغم ذلك فاني اصدق معظم او كل ما قاله الرجل، لانه من الرجال القليلين الذين لديهم قدرة على التحليل مستندا الى خبرة طويله ومداومة على المطالعة الهادفة وليست العبثية ، كما لدية طريقة سلسة في التفكير المنطقي ترقى الى ان يطلق على ابو السعيد بانه يقع ضمن فئة المفكرين السياسيين على قلتهم في الاردن والعالم العربي .
اعجبني رايه في الشهيد وصفي التل ، حيث قال انه اقرب رئيس الحكومات اليه ، وان وصفي يتمتع بثقافة عالية وبتفكير استراتيجي ، مشيرا الى ان فكرة المملكة العربية المتحدة كانت اصلا احدى طروحات المرحوم التل .
فوجئت بما قاله عن قرار الرباط ، باعتبار منظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني . وان هذا القرار كان فكرة هنري كيسنجر وزير الخارجية الامريكي الاسبق ، مررها الى السادات عبر وزير خارجيته اسماعيل فهمي الى ان طرحها السادات بعد ذلك على القمة العربية التي اتخذت القرار رغم معارضة الاردن . واكد ابو عوده ان عرفات ابتلع طعم كيسنجر والسادات ، وطلب من الفلسطينيين توزيع الحلوى فرحا بالقرار، مشيرا الى ان القرار هو الذي حول الضفة الغربية من ارض محتلة الى ارض متنازع عليها .
ومصدر المفاجاة من هذا القول عن القرار ، بانه يخالف الاعتقاد السائد الذي ورد على لسان محمد حسنين هيكل في مقال له بمجلة وجهات نظر عن العاهل المغربي السابق المرحوم الملك الحسن الثاني حيث قال بانه ـ هيكل ـ حضر قمة الرباط وان قرار اعتبار منظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني هو فكرة الحسن الثاني ومن اخراجه ايضا ، وان السادات فوجئ بها كما فوجئ بها القادة العرب الاخرين ، وان الملك المغربي هدد في لحظة من اللحظات بالخروج من جلسة للقمة مع انه المضيف ، اذا لم يتم اقرار هذا القرار الامر الذي اجبر الزعماء العرب على الموافقة .
احد المساعي التي فشل في تحقيقها ابو السعيد ، هو ما اشار به على الملك الراحل بالسعي لتشكيل قيادة بديلة لمنظمة التحرير بعد وقف التنسيق مع المنظمة ، حيث تم استدعاء وفود من الضفة الغربية لالقاء عشرات الخطابات امام الملك الراحل في الديوان الملكي . وكنت ممن غطوا هذه الخطابات اعلاميا لعدة ايام مندوبا عن الاذاعة الى جانب زملاء اخرين .
على كل حال لدى الرجل الكثير مما يقوله ولايعرفه اخرون ، ولايزال هناك احياء ممن عاصروا المرحلة الوردية لابو السعيد ، ويعترفون باسبقيته في الراي والتحليل السياسي وجراته في التعبير عنه. والامر المهم اننا ننتظر ما سيكتب عن تلك المرحلة، وبالتاكيد فانه يستحق القراءة .