يستمد الإنسان وعيه من ثلاثة مصادر رئيسة ، تسهم كل منها في تكوين شخصيته ، وتؤثر على هذا النحو أو ذاك ، في صياغة مدركاته النظرية ومعارفه وخبراته العملية ، التي تحدد موقفه ، وتغربل خياراته ، وتعمق تجربته ، وترفع من سويته الإجتماعية وهي:
1- التنشئة الأسرية والتربية والتعليم معاً ، لا سيما في السنوات الأولى من حياته التي تبدأ كصفحة بيضاء ، أو كعجينة قابلة للتشكل بفعل ما تتعرض له من مؤثرات خارجية.
2- الفضاء العام ، الذي بات يشكل فيه الأعلام مؤخراً انجع أدوات التأثير على إتجاهات الرأي العام ومراكز صنع القرار ، بما يتواتر فيه من أراء وأفكار وصور ومعلومات ، تخاطب مركز تفكير الإنسان ، عاطفته ووجدانه الخاص .
3- الإنتماء لحزب عقائدي ، أو الأنحياز لتيار سياسي من أي لون كان .
لذلك لم يكن عبثاً على الاطلاق ، ولا من قبيل الصدفة ابداً ، أن تولي الأحزاب العقائدية جل إهتمامها للمؤسستين : التربوية والأعلامية ، بإعتبارهما المفتاحين الكبيرين لولوج الابواب المغلقة ، وبث الافكار وترجيح وجهات النظر المسبقة ، ومن ثمة توجيه الأفراد بكل يسر على الطريق المرسوم بعناية ، والتغلغل في نسيج المجتمع دون خلق أي اثارة ، أو التسبب بأي إحتكاك مع سلطات الرقابة.
حينما ندقق اليوم بالوعي المتكون لدى الأغلبية الساحقة من الأردنيين ،الذين يعيشون في نجتمع تعددي مفتوح ، نجد أنهم متأثرون بأفكارشتى ، لعل أشدها أفكار حركة الإخوان المسلمين ، وأنهم منفعلون برؤيتها تجاه القضايا التي تشغل الإهتمامات المركزية لدى أكثرية الناس ، المهمومين بالقضايا العامة ، بما في ذلك القضايا الحياتية.
وما كان لهذا التأثير أن يكتسب هذه القوة ، وأن يبلغ مداه الراهن ، لولا ذلك التحالف السياسي المصلحي القائم ما بين مؤسسات الدولة الاردنية وحركة الإخوان المسلمين لأكثر من خمسين عاماً ، إمتدت على طول حقبة الحرب الباردة على المستوى الدولي ، وإستمرت طيلة فترة الأحكام العرفية على المستوى المحلي ، وعلينا التسليم على أنها الحركة السياسية الأكثر قوة وتماسكاً ونفوذاً بين الأردنيين ، وتشكل إمتداداً لأكبر وأقوى حركة سياسية عابرة للحدود في العالم العربي .
فعلى قاعدة هذا الحلف الذي لم يهتز إلا في الآونة الأخيرة ، بين الدولة والإخوان ، تصدى الطرفان على نحو مشترك لما إعتبراه عدواً خارجياً ، حيث رأت الدولة فيه خطراً على الكيان ، فيما رأت الحركة الإخوانية فيه عدواً كافراً ينبغي مقاومته ، ونعني به كل من الشيوعية والإشتراكية والأتحاد السوفياتي ، وذلك طوال الفترة الواقعة ما بين سنة 1950 إلى سنة 1990 ، وطوال فترة الأحكام العرفية في الفترة الواقعة ما بين 1957 حتى عام استرداد شعبنا لحقوقه الدستورية عام 1989.
وعلى هذه الخلفية المعلنة على رؤوس الأشهاد ، من كلا الجانبين ، اتاحت الدولة لحركة الإخوان المسلمين ، أو نظرت بتسامح ، إلى تغلغل الحركة في مؤسسات ودوائر ووزارات التربية والتعليم والأوقاف والجامعات ، ويسرت لها بذلك التأثير على وعي شرائح واسعة من الأردنيين ، ذلك التأثير الذي رسخ من وجود الحركة الإخوانية في المجال العام ، ووسع نفوذها لدى مختلف الطبقات الاجتماعية ،على نحو ما كان يتجلى عليه الأمر في الأنتخابات النقابية والطلابية والبلدية والبرلمانية ، طوال العقود الماضية.
ولعل من اللافت للإنتباه حقاً ، ان عدداً من الأردنيين الخارجين من رحم الإسلام الأصولي ، بأطيافه المختلفة ، قد أسهموا أو قادوا ، بل وأسسوا ، أكبر الحركات السياسية تأثيراً وقوة في عالمنا المعاصر . فالذي أسس تنظيم القاعدة كان عبد الله عزام ، شيخ أسامة بن لادن ، كما أن الذي أسس نواة داعش المنبثقة عن القاعدة أبو مصعب الزرقاوي ، قبل أن يعلن ابو بكر البغدادي قيام دولة الخلافة ، وفوق ذلك فإن من يرأس الهيئة الشرعية العليا في تنظيم الدولة الاسلامية الآن المواطن الأردني عمر زيدان .
أردت من هذا الأستعراض المكثف ، أن أقدم رؤية موجزة لماهية الوعي السياسي وكيفية تشكله لدى الإخوان المسلمين ، وأن أبين طرق تأثيره على وعي الانسان هنا وفي كل مكان ، لأخلص من ذلك إلى حقيقة باتت شبه بديهية ، ألا وهي أن الإعلام بأدواته كافة ، لم يكن ذات يوم مستقلاً ولا محايداً ، وأنه بات في عصرنا الراهن ، الوسيلة الأكثر مضاءّ في تكوين الوعي وتوجيهه ، من منطلق حقيقة لا مراء فيها ، ألا وهي أن لدى أي وسيلة إعلامية رسالة خاصة بها ، تود أن تصل بها ومن خلالها إلى الناس.
وحينما نتوقف برهة أمام المؤسسة الأعلامية الأردنية مثلاً ، نلمس دون عناء ، حقيقة غيابها المروع ، ونرى ضعف تأثيرها في المتلقين ، قياساً بما هو عليه الحال لدى الآخرين من أصحاب الشبكات الأعلامية ، ومرد ذلك عائد لسببين : أولهما غياب الرؤية السياسية الأردنية ، وثانيهما تواضع القدرات المالية . وللإستدلال على صحة هذا الأفتراض ، دعوني اسأل نفسي قبل ان اسألكم ، من يهتم على سبيل المثال بالميثاق الوطني الأردني ومن يتذكره اصلاً ؟ ومن يهتم بمدونة الأجندة الوطنية ، ومن يمنحها شيئاً من التوقف او يستحضرها في النقاش؟
وأزيدكم من الشعر بيتاً إن قلت لكم ، متسائلاً سؤال العارف ، كم واحد منكم قرأ كتاب رأس الدولة الأردنية الملك عبدالله الثاني " فرصتنا الأخيرة " الصادر عن دار الساقي في بيروت عام 2011 كي يفهم جوهر السياسة الأردنية في مرحلة ما بعد رحيل الملك حسين ؟ ومن منكم يعتبر أن أوراق الملك النقاشية الخمس ، كخطوط وطنية يُسترشد بها ، يُستنبط منها برامج عمل ، أو بإعتبارها دليل عمل تأخذ به الحكومات المتعاقبة وتهتدي به وسائل الأعلام الرسمية على سبيل المثال؟
وعليه ، في ظل ضبابية الصورة القائمة ، وغياب المرتكزات الفكرية والأعلامية اللازمة ، وحضور كل هذا الضخ الأعلامي من الفضاء الخارجي المفتوح على مداه الواسع ، أصبح المواطن الأردني عرضة لكل التقلبات السياسية ومدخلاتها الأعلامية وأدواتها التحريضية ، بما في ذلك أدوات الأعلام الحديثة ، الخارجة عن نطاق التحكم والسيطرة ، في زمن إنفجار ثورة المعرفة وثورة عالم الأتصالات الرقمية.
وتحضرني وأنا أتحدث عن الأعلام ، ملاحظة مفادها ، من أهم المتغيرات الكبرى في هذه المنطقة ، إنكفاء الولايات المتحدة الأميركية ، وتراجع دورها ، لصالح قوى إقليمية وأخرى دولية صاعدة ، وهو متغير بالغ الأهمية ، وله ما بعده من تداعيات كبيرة ، حيث أن هذا التراجع الأميركي الملموس في منطقتنا جاء في اعقاب هزائم واشنطن المتكررة في كل من افغانستان والعراق ، ومساهمتها العسكرية في إسقاط نظامي الحكم في العراق وليبيا ، وفشل سياساتها في التعامل مع ثورات الربيع العربي ، ناهيك عن إنخفاض أسعار النفط والأزمة المالية العالمية منذ عام 2008.
في مقابل هذا التراجع والإنكفاء الأميركي ، صعدت أربع دول إقليمية وازنة ، تسمى دول الطوق الخارجي ،عملت كل واحدة منها على توسيع مجالها الحيوي بدأب شديد ، وزادت من تأثيرها على التوازنات الهشة في هذه المنطقة شديدة الرخاوة أصلاً ، وهذه الدول ، من غير ترتيب حسب الأهمية ، هي:
1- المشروع الأستعماري التوسعي الأسرائيلي.
2- إيران عبر أحزاب ولاية الفقيه.
3- تركيا عبر حركة الإخوان المسلمين.
4- أثيوبيا في منطقة القرن الافريقي.
ليس صدفة أن إعلام العدو الإسرائيلي يُظهر حياده إزاء الصراع المحتدم في منطقتنا العربية ، ما بين تركيا وإيران وأثيوبيا ، يغمض عيناً ويفتح أخرى كالذئب ، تاركاً لها الأقتتال والتصفية و" أكل " بعضها بعضا ، حيث تقوم تل أبيب من وراء غلالة رقيقة بتغذية هذا الصراع والعمل على إستمراريته ، وإظهار نفسها وكأن لا علاقة لها به ، فيما يقوم الأعلام العربي بتوفير المواد البترولية اللازمة لإشعال الحريق الهائل ، لهذا الطرف أو ذاك بكرم وسخاء لا سابق لهما.
إذ تتول بأدوات الصراع الأعلامي ، الآن ، ثلاث شبكات كبرى ممولة ، كل على حدة ، من إيران والمملكة العربية السعودية وقطر ، ولذلك لا يستطيع المشاهد أن يرى مشهداً أو يسمع عن حدث ، ويرغب في أن يكوّن رأياً موضوعياً حوله ، بمعزل عن مشاهدة قنوات مثل العربية أو الجزيرة أو الميادين ، الأمر الذي يجعل من المتلقي لقمة سائغة لواضعي الرسالة الأعلامية المضمرة ، ويطوع إدراكه وفهمه ووعيه وموقفه ، على هذا النحو أو ذاك ، بما يخدم الجهة الممولة لهذه القناة أو تلك.
كان لينين قائد الثورة البلشفية في روسيا أوائل القرن العشرين يقول: أعطني جريدة أعطيك حزباً ، وأحسب أن هذا القائد الشيوعي البارز لو عاش في زماننا هذا ، أي في زمن ثورة الأتصالات الرقمية المتعاظمة ، لقال : أعطني قناة فضائية أعطيك حزباً جماهيرياً عظيماً ، خصوصاً إذا لمس أن تأثير بعض المحطات التلفزيونية أهم وأفعل من جيوش ودبلوماسية الدول المالكة لمثل هذه المحطات.
بكلام آخر ، فقد أصبح الأعلام إحدى أهم الأسلحة وأمضاها في عصرنا الراهن ، وربما أشدها فتكاً في أوقات الحروب والتوترات والنزاعات ، فما بلك إذا كان الحديث يدور عن القوة الناعمة في زمن السلم ، وكان النقاش يجري حول أدواتها ورسالتها وأهدافها القابلة للتحقق ، دون طعنة من رمح ، أو ضربة من سيف ، وذلك كله بأقل الأثمان ، ومن غير إسالة نقطة دم واحدة ؟.
ما أود قوله في ختام هذه العجالة شيئين واضحين وضوح الشمس في رابعة النهار :
أولهما أنه ليس في عصرنا هذا ما يسمى بإعلام محايد ناصع البياض ، بما في ذلك أعلام الترفيه والمنوعات ، فلكل وسيلة أعلامية ممول ، ولكل ممول هدفان متزاوجان ، أحدهما ربحي ، والأخر سياسي ، قد يكون مباشراً أو يتلطى من وراء ستار.
وثانيهما أن لدى كل وسيلة أعلام ، عربية كانت أم أجنبية ، رسالة لا تخطئها عين المشاهد الفطن ، أو يغفل عنها عقل القارئ الحصيف ، إذا تنقل بين أي من صفحات الصحف الصادرة اليوم ، أو تابع اي من نشرات أخبار المساء المثقلة بالفيديوهات والتقارير المصورة.
غير أن ما ينبغي تسجيله مع الأسف الشديد ، أن الأعلام الحزبي في بلادنا ، منذ أن كان هذا الأعلام ، ظل مفتقراً إلى المهنية والرشاقة والأحتراف ، الأمر الذي أودى برسالة الأحزاب والقوى العقائدية ، وأوهن من قدرتها على التواصل والتفاعل مع أوسع قطاعات الرأي العام ، وربما هذا هو السبب في ضعفها المستمر ، وفشلها المتواصل في الأنتخابات الأخيرة ، وأخص هنا الأحزاب القومية واليسارية التي أخفقت في إمتحان الأنتخابات النيابية بالأمس القريب على ظهر " الأساطيح " .
وقبل أن أختم مطالعتي هذه التي تركز على الأعلام المسيس حصراً ، أود أن ألفت الأنتباه إلى أمر جديد في فضاء الأعلام ، الذي تواضعنا على إنه مجرد صحيفة أو راديو أو تلفزيون ، في حين أن الأعلام الحديث ، إن لم نقل الأعلام البديل ، بات أوسع وأغزر وأدهى وأمر من الأعلام الكلاسيكي ، وأعني به شبكات التواصل الأجتماعي بكل ما تبثه بلا انقطاع ، من أراء وصور وأفكار على مدار اليوم ، الأمر الذي يجعل من الشبكة العنكبوتية المتاحة بسهولة للجميع ، أداة التواصل الأقرب إلى ايدي الناس كل الناس على وجه التقريب.
أشير إلى هذا المتغير الذي لم يلتفت إليه الجيل المؤسس للأحزاب العريقة ، وقد لا يتعامل معه اساساً ، كي أدعو بإخلاص إلى ضرورة الأهتمام بوسائل الأعلام الجديد هذا ، والتعاطي معها كأداة فعالة من أدوات التواصل مع أجيال صاعدة ، لم تعد تعرف إلا شاشة الكمبيوتر على مدى الليل والنهار
ختاماً ، ليس من المبالغة القول أننا نعيش اليوم عصر الصورة ، التي جبت كل ما سبقها في أزمنة الأعلام السابقة من تقارير صحافية مكتوبة ، ورسائل إذاعية مباشرة ، فالمشاهد المنقولة من عين الحدث اولاً بأول صارت عنوان الحقيقة ، وغدت البرهان على صدقية الخبر ويقينيته ، حتى أن المعارك المبثوثة على شاشة التلفزيون أمست أهم من المعارك في الميدان ، وأن كسب الصورة وتكريسها في الأذهان أصبحت أهم من كسب المعركة في حد ذاتها ، أي أن الصورة أضحت أهم من الأصل.
h.faraneh@yahoo.com
* مداخلة الكاتب والباحث السياسي حمادة فراعنة ، لدى حلقة حزب الوسط الإسلامي النقاشية ، 1/10/2016 .