التعددية السياسية والفكرية في الحضارة الاسلامية - 20-

التعددية السياسية والفكرية في الحضارة الاسلامية  20
أخبار البلد -  
مسار التعددية السياسية والفكرية في الحضارة الاسلامية لا يختلف عن غيره من الحضارات، الا انه استند الى نص قرآني ونبوة؛ وتميز عن الحضارة الغربية المسيحية بكون الاسلام قدم عقدا اساسيا منشئا دولة المدينة؛ في حين ان الدولة في الحضارة الغربية المسيحية كان نتاج لتسوية سياسة او تنازلات كبيرة في مجمع نيقية 325م بين الدولة الرومانية الوثنية والمسيحية؛ افضت الى فصل كامل للدين المسيحي عن الدولة في علمانية مبكرة «دع ما لقيصر ..لقيصر .. وما لله.. لله»؛ فالدولة في هذه الحضارة كانت امتداداً للدولة الرومانية ومن قبلها اليونانية.
فالعلاقة شابها تصارع بين السلطة والكنيسة ومحاولات تغول متبادلة خصوصاً في القرون الوسطى حيث سيطرت الكنيسة على الكثير من شؤون الحياة لتفضي من ثم الى صراع ديني افضى الى تشكيل الدول القومية بعد مؤتمر وستفاليا 1648م؛ لتكريس الفصل والالتزام بالعقد التاريخي الذي عقده قسطنطين مع قساوسة مجمع نيقية في العام 325م؛ الا ان المواجهة بقيت محتدمة الى ان اندلعت الثورة الفرنسية عام 1789 التي استهدفت الى جانب السلطة المطلقة سلطة للملك وسلطة الطبقة الارستقراطية ورجال الدين فقتلت 30 الف قسيس في شهر واحد؛ لتكرس مفهوم الفصل التام، وامتد الصراع ومحاولات ازاحة الدين المسيحي في الثورة البلشفية الماركسية في روسيا 1917 حيث عطلت الحياة الدينية والكنسية بالكامل.
الحضارة الغربية لا زالت تعيش تداعيات تلك التسوية والمزاوجة بين المسيحية وبين الارث الامبراطوري للرومان؛ افضى الى ثنائية لا تقبل التعددية من خارج هذه التسوية؛ وتم اقصاء سائر الاديان والتوجهات المغايرة؛ لتصطبغ اوروبا بهوية مسيحية فردية؛ فالحضارة الغربية لم تعرف التعددية الدينية وخصوصا في القارة الاوروبية؛ امر انفلت من عقاله بعد هزيمة المسلمين في الاندلس لتشعل اوروبا محرقة انسانية كبيرة قتل فيها المسلمون بالجملة من خلال محاكم التفتيش ودفع عدد من الاوروبيين اثمانا باهظة باتهامهم بالهرطقة في ذات الوقت.
ذات السلوك نجده بعد حركة الكشوف الجغرافية في العالم الجديد حيث ابيدت شعوب وحضارات وديانات وكان الحرق الوسيلة المفضلة دوما في القارة الاوروبية؛ امر امتد الى الحرب العالمية الثانية من خلال الهولوكوست الذي اشعله هتلر، فالقارة الاوروبية لم تعرف التعددية الدينية ولم تعرف القارة الاديان الجديدة الا بعد الهجرات الواسعة في القرن الواحد والعشرين؛ وبقيت القارة رهينة في نموذجها الارشادي الى ثنائية المكونين المسيحي والروماني.
في الحضارة الاسلامية التي استندت فيها السلطة الى الوثيقة المنشأة لدولة المدينة بقيت ملتزمة بعقد البيعة الاختيارية الى ان ادى التوسع في حدود الدولة الاسلامية والهيمنة على امبراطوريات ومساحات شاسعة من الارض الى قيام الثقافة العميقة وما يعادلها في الحقبة المعاصرة «ال دولة العميقة»بثورة مضادة لتحول الحكم الى كسروي ملكي لا يقوم على بيعة اختيارية؛ فكان الموروث الامبراطوري الفارسي والروماني بمثابة الدولة العميقة التي انقلبت على دولة المدينة في يثرب، وانتجت حكما جبريا فجر صراعات سياسية وتناقضات كبيرة في الحضارة الاسلامية تولد عنه محاولات تجديدية وتنويرة وثورية منذ عهد الحسن والحسين الى الغزالي وابن تيمية انتقالا الى محمد بن عبد الوهاب والسنوسي والمهدي في السودان الى عصرنا الحالي، وما فيه من برامج ومشاريع تجديدة؛ وهي مشاريع لم ترفض التعددية الدينية او ترى فيها اشكالا وعائقا امام مشاريع التجديد والترميم للمرجعية الحضارية الاسلامية التي تضررت ثقافيا ثم سياسيا بعد الحملة الاستعمارية الغربية بشكل كبير؛ ما فاقم من التحديات التي تواجهها الحركات التجديدة التي كانت منصبة في السابق على مواجهة الاستبداد اما الان فهو ملء الفراغ ومواجهة المرجعية السياسية الغربية المتغولة.
في كل الاحوال، فإن رفض اوروبا للتعددية الدينية لا يعني رفضها تعدد الافكار من ليبرالية واشتراكية، وهي منتج من ذات النموذج الارشادي «برادايم»؛ الا انها ترفض اي شكل من اشكال التعددة خارج هذا النموذج وترفض اي دور للدين المسيحي فكيف الحال بالاديان الاخرى؛ وهي تعاني بذلك من ازمة الاعتراف بغيرها من الحضارات الى حد الغلو الذي ذهبت اليه بأن التاريخ بلغ نهايته في الغرب.
النموذج الارشادي الاوروبي لم يستقر فلازال يفرض نوعا من التوتر في القارة الاوروبية؛ اذ اشتعل الجدل بعد تأسيس الاتحاد الاوروبي حول هوية القارة الاوروبية والاتحاد، تبعه مناقشة موسعة للدستور الاوروبي المقترح في حينها؛ دستور استند في بنوده الى مواثيق حقوق الانسان؛ الا ان المعركة اشتعلت مع الفاتيكان والبابا يوحنا بولص الثاني؛ ذلك ان الدستور لا ينص على هوية اوروبا المسيحية ما ادى الى تفجر التوتر مرة اخرى في القارة العجوز، والى موجة اعتراضات قادت الى اسقاط الدستور الاوروبي المقترح في عدد من الاستفتاءات في القارة الاوروبية، ولم يستطع الاوروبيون الفكاك من عقدة مجمع نيقية عام 325م الذي اعطى للقارة الاوربية هويتها المسيحية المتفردة.
اوروبا لازالت لا تقبل التعددية الدينية وتتعامل بحساسية مع العقائد المختلفة امر برز من خلال التوتر الناشئ عن الهجرة واللجوء من خارج القارة؛ ومن خلال رفض انضمام تركيا المسلمة الى الاتحاد الاوروبي؛ امر تختلف فيه الحضارة الاسلامية بالمطلق عن القارة الاوربية والحضارة الغربية، فالتعددية الدينية من المسائل الاساسية والمقبولة في الاسلام والحضارة الاسلامية؛ مسألة دعمتها نصوص قرآنية وممارسات عملية تعترف صراحة بحق الاعتقاد، وبدور الدين في الحياة العامة، بل السياسية على خلاف ما استقرت عليه الحضارة الغربية التي تجد في الدين مصدرا للتوتر والتهديد منذ التسوية التاريخية في مجمع «نيقيا»؛ حيث تهدد شبح الحرب الاهلية الدولة الرومانية في حينها، كما تهدد القارة الاوروبية اكثر من مرة؛ امر تثبته الوقائع التاريحية والمعاصرة في الحضارة الغربية.
ما يدفع الى التفكر في اسباب انتقال حالة التوتر بين السلطة والمؤسسات السياسية في اوروبا الى العالم الاسلامي، ولماذا تم استنساخ هذ المناخ المسموم لينعكس سلبا على سائر الطوائف والاقليات الدينية بل العرقية الاثنية؛ فهل كان للمرجعية السياسية الغربية وممارساتها الانتهازية والاستعمارية دور في نقل حالة التوتر الديني الى الحضارة الاسلامية، ام ان الاستبداد والعجز السياسي في العامل العربي يتحمل المسؤلية؟ امر لابد ان يدفع المفكريين والساسة في العالم العربي الى محاولة تفكيك عناصر الازمة، واستعادة الاقليات الدينية والعرقية الى حاضنة الحضارة الاسلامية بشكل ينهي التوتر لتستعيد الاقليات مكانتها في بناء هذه الحضارة ومساهماتها فيها.
فبعيدا عن النموذج الارشادي الغربي الذي لا يعترف الا بنموذجه الارشادي وما تمخض عنه من تعددية بعد المزاوجة بين المسيحية والحضارة الرومانية الوثنية؛ نجد ان النموذج الارشادي للاسلام يشير بوضوح الى دور الاسلام في انشاء الدولة من خلال العقد الاساسي «الصحيفة» الذي صاغه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، دون تقديم تنازلات للمجتمع الوثني في مكة على حساب المعتقدات الدينية، او دور الدين في الحياة العامة والسياسية، امر اقترحة زعماء مكة على الرسول اكثر من مرة ورفضه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووثقه النص القرآني، كقوله تعالى في سورة يونس على لسان رسول الله: «وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِ قُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)».
فالاسلام والحياة السياسية والمدنية صنوان لا يفترقان، فلا دين بدون دولة في الاسلام، ولا دولة بدون دين؛ فالدعوة والفقه وشكل الحكم والتعددية التي تمخضت عنه تقع في صلب ثقافة المجتمع المسلم ومسار تطوره السياسي ومحاولاته التنويرية والتجديدية على خلاف ما كان في الحضارة الغربية.
هذا العرض كان ضروريا فهو المقال الاخير التي ستنتهي فيه هذه السلسلة بانتهاء شهر رمضان الا ان ذلك لا يعني انه لن يتم نشر مقالات تستكمل ما بدأناه بين الحين والآخر الى ان يتم انجاز هذا المشروع على شكل كتاب يتناول التعددية الفكرية والسياسي في الاسلام، ونموذجها الارشادي ومحاولات الاصلاح والتجديد فيه بتوسع اكبر ان شاء الله. 

 
شريط الأخبار «المركزي»: تعليمات خاصة لتعزيز إدارة مخاطر السيولة لدى البنوك فرنسا ترسل سفينة عسكرية إلى سواحل لبنان احترازيا في حال اضطرت لإجلاء رعاياها الاتحاد الأردني لشركات التأمين يهنئ البنك المركزي الأردني بفوزه بجائزة الملك عبدالله الثاني للتميز عن فئة الأداء الحكومي والشفافية لعام 2024 الصفدي يوجه لنجيب ميقاتي رسالة ملكية جادة وول ستريت تستكمل تسجيل المكاسب بعد تصريحات رئيس الفدرالي الأميركي إعلان تجنيد للذكور والإناث صادر عن مديرية الأمن العام المستشفى الميداني الأردني غزة /79 يستقبل 16 ألف مراجع الملك يرعى حفل جوائز الملك عبدالله الثاني للتميز الخارجية: لا إصابات بين الأردنيين جراء الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان حزب الله: قصفنا مستعمرة "جيشر هزيف" بصلية صاروخية الحكومة تقرر تخفيض أسعار البنزين 90 و95 والديزل لشهر تشرين الأول المقبل وفاة احد المصابين بحادثة اطلاق النار داخل المصنع بالعقبة البنك الأردني الكويتي ينفذ تجربة إخلاء وهمية لمباني الإدارة العامة والفرع الرئيسي وفيلا البنكية الخاصة الخبير الشوبكي يجيب.. لماذا تتراجع أسعار النفط عالمياً رغم العدوان الصهيوني في المنطقة؟ حملة للتبرع بالدم في مستشفى الكندي إرجاء اجتماع مجلس الأمة في دورته العادية حتى 18 تشرين الثاني المقبل (ارادة ملكية) الاعلام العبري: أنباء عن محاولة أسر جندي بغزة تسجيل أسهم الزيادة في رأس مال الشركة المتحدة للتأمين ليصبح 14 مليون (سهم/دينار) هيفاء وهبي تنتقد الصمت الخارجي بشأن العدوان الإسرائيلي على لبنان مشاهد لتدمير صاروخ "إسكندر" 12 عربة قطار محملة بالأسلحة والذخائر لقوات كييف