مباني الصحف.. فرع لمؤسسة إقراض ومصحة نفسية
حين تمر بتقاطع المدينة الرياضية، وتحديداً في تلك البؤرة التي شهدت أنشط وأوسع حركة صحفية في الأردن، يصعب عليك أن تتبين ملامحها، فسوى "العرب اليوم".. لم يعد ثمة وجود للصحف التي شكلت فرقاً منذ مطلع التسعينيات حتى عدوة الألفية. فتمضي.. وفي الحلق غصة مع ترداد شطر بيت شعر امرؤ القيس: قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل..
"شيحان"، "حوادث الساعة"، "البلاد"، "عبد ربه"، "الساعة"، "المسائية واراب ديلي"، صحف لم يعد لها وجود أو أثر في منطقة لاكتها ثقافة الاستهلاك، إلا في ذاكرة أصحابها والصحافيين الذين مروا بها، وأوسعوا الفضاء صخباً وألقاً وطموحاً كان أكثر شسوعاً مما تتسع له البلد. ولكل صحيفة منها قصة تروى.. لا يتسع المقام هنا لذكرها.
وكم مثير أن تعرف أن مباني تلك الصحف تحولت الى مقهى صاخب، وفرع لمؤسسة الإقراض الزراعي، ومكاتب متنوعة، ومركز لعلاج الأمراض النفسية.. فتآسى.. وهل ثمة آسى بحجم الغياب الذي يلد غياباً وعصف تذكار.
رياض الحروب، نايف الطورة، نضال منصور، خالد كساسبة، نائل صلاح، جهاد المومني، نضال منصور، باسل الطراونة، هاشم الخالدي، فيصل ملكاوي، حسين العموش، أسامة الراميني، عمر النادي، باسم سكجها، ناصر شديد، محمد المستريحي، يوسف غيشان، بسام العنتري، جهاد أبو بيدر، عبد الهادي راجي المجالي، عبدالله ابو رمان، محمد أبو عمر، نشأت الحلبي، وكاتب هذه السطور، والعشرات.. بل المئات ممن لم تعد الذاكرة تتسع لذكرهم وإن كان في القلب تذكارهم. مروا بتلك الصحف.. واختفوا.
منهم صحافيون وكتاب شقوا طرقهم في فضاءات صحف أخرى، ومنهم من اختار الهجرة والغياب، لأسبابهم.
كان ممكنا في تلك الأيام أن تلحظ مدى حماسهم، لم يكن الراتب يكفي في الغالب، لكنهم أبداً جريئون وسباقون الى الكشف عن الخبر.. وما وراء الخبر، ولطالما أحرجوا حكومات، وأثاروا غضبها، لدرجة أنه قيل أيامها إن الصحف كانت تتقدم القوى السياسية في توسيع هامش الحرية.
ولم تسكت الحكومات على ما أسمته اجتراءً، ولجأت الى كل ما تستطيع في محاولة لإسكات الصحف، ومن ذلك تعديلات قانون المطبوعات "المضبوعات كما أسماه صحافيون أيامها"، التي توجت بقانون المطبوعات والنشر المؤقت عام 1997، الممهور بتوقيع رئيس الوزراء عبد السلام المجالي، وأدى فيما أدى اليه، إلى إغلاق الصحف وتشريد الصحافيين وقطع أرزاقهم.
ضم المبنى الظاهر في الصورة صحيفتي البلاد وعبدربه الساخرة، أما المبنى الثاني الذي تحول الى مقهى فكان يضم شيحان وحوادث الساعة والساعة، ومقهى صغيرا أطلق عليه للمفارقة فقط "مقهى الصحافة المستقلة"، فيما كانت المسائية واراب ديلي في مبنى "الطباعون العرب".
الصحف وصحفيوها ذهبوا الى مصائرهم، أما المباني فتحكي الآن قصصا أخرى. ما يدعو الى التساؤل: هل سنشهد -مثلا- محل فلافل بدل صحيفة ستغلق قريباً، أو ناد ليلي، على اعتبار أن هذه الكباريهات باتت تنتشر كالنار في الهشيم بين ظهرانينا، وربما فرعاً لمستشفى الفحيص الشهير.. ربما.