سنواتٌ مضت على الحادث , كان سائقا" متمرسا" لشاحنات النقل , يذهب ويجيء من الشام إلى الخليج وهو مغمضُ العينين , يحفظ الطريق عن ظهر غيب , لا يفلتُ منه كوعٌ أو منزلقٌ أو مرتفعٌ جبلي , (شوفير مُر) كما يقولون بالعاميّة .
طريقٌ ضيقٌ باتجاهين , يمينه جبل ويساره واد , القمر عشعش في السماء واختفى خلف الغيوم , ليلٌ دامس وظلمةٌ جمّة , سوادٌ حالك تشقُه أضواءُ السيارات وكاشفاتها , الوضع مريب ويحتاج الحذر , دقائق مضت حتى بدأت بخاتٌ من المطر , قليلا" وشيئا" فشيئا" ليزداد الوضع سوءا" , زحاليقٌ في الأرض وصابون , كلُ ذلك لا يهم , الشاحنة ضخمة ولها ثقلها , يتابع بثقة يكتنزها حذر , ثوانٌ مسرعة مضت كالسراب , يصطدم بسيارة ويضل عن الطريق , يحاول بكل خبرته أن يتفادى السقوط , يومٌ كامل اسفل الواد , ينقذه أحد المارة وهو فاقدٌ قدميه على حافة الموت .
كان صباحا" مشرقا" شعر فيه بالنشاط على غير عادة , أحب لو تعادُ له قدميه حتى يركض العالم أجمع , دمه يغلي في عروقه طالبا" منه التحرك , همةّ وقوة كبيرتان , يغسل وجهه في البحرة الصغيرة وسط (أرض ديار) , يودع سعد وطلال قبل ذهابهما , تدفعه زوجته سارة إلى خارج المنزل مكملا" طريقه إلى السوق جارا" نفسه بنفسه , ساعاتٌ تمضي على عجل , الشمس تقوى وتشد , دوخة مفاجأة تصيبه , توعكٌ وتعرق , ينادي أبو جميل ..
_ أبو جميل , تعال
_مابك ؟ , خير انشالله
_ تعبان أريد العودة للمنزل
_ هل أساعدك ؟
_ لا , لا مشكلة , ضع ابنك الصغير على العربة , بعينك الله
يعود بتباطئٍ وكهولة , دقائق حتى يصل المنزل , لم يطرق الباب , يخرج مفتاحه ويدخل بمساعدة أحد المارة , يصل أرض ديار , سارة , سارة (ينادي ولا تجيب) , حركشة وأنّات تصدر من غرفة النوم , يتقدم باتجاهها فورا" , غصّة تلتبس قلبه , شعر بمصيبةٍ ما , يفتح الباب بصعوبة ,والمفاجأة ... صاعقة تضربُ عينيه , كارثة حلت به وبعائلته , زوجته الطاهرة في حضن أحدهم , قبلاتٌ قطعتها الرهبة , يخرج الشاب ركضا" دون لباسه , ما تزال سارة مرتبكة في الفراش , صمتٌ يحتل ذاته , ترتدي ستيانها بتثاقل , دموعٌ تملئ عينيها , تقترب منه ورأسها بالأرض , يمسك يدها , يقربها منه , تبكي بشدة , يعانقها بقوة , يزيد العناق أكثر , يداه على عنقها , يضغط بكل عجزه وقوته , يلتحم ضعفه بالمرارة والجبروت , ثوانٍ حتى يزرع إبهاميه في الرقبة , تزفر وتأن , تفرك وتنتفض ... أخر حالها أن بصقت دما" وغابت .
ماجد اليمن _ كاتب من سوريا