أخبار البلد - عاطف الجولاني
لعقود طويلة، نجح الطرفان في نسج علاقات أضحت أنموذجا ومضرب مثل في المنطقة، من حيث قدرة السلطة والإسلاميين على إدارة علاقات هادئة ومتوازنة تخدم مصلحة الطرفين، وتحقّق قبل ذلك مصلحة المجتمع.
قناعة الطرفين معا، ورغبتهما الأكيدة بنسج علاقة إيجابية وبتجنب الصدام والمواجهة والاحتكاكات الشديدة، هو ما نجح في الحفاظ على علاقات اتسمت معظم الأحيان بالدفء وبقدر معقول من الثقة.
لم تكن الأمور على الدوام «سمنا على عسل»، فقد شاب العلاقة توترات، وأحيانا أزمات، لكن الطرفين نجحا باستمرار في احتوائها وتجاوزها، فقد كانا يدركان خطورة المواجهة والذهاب إلى معركة كسر عظم.
خلال فترة طويلة رأى الحكم في الحركة الإسلامية صمام أمان مهما لاستقرار المجتمع، وعامل تعزيز لوحدته وتماسكه وتلاحمه، وسدّا يحول دون اندفاعات مضرّة نحو التشدد والتطرف.
ورغم التحريض الخارجي المستمر من خصوم سياسيين اتخذوا موقفا سلبيا من مجمل الحالة الإسلامية، ومحاولات أطراف داخلية منافسة أو حاقدة أو حاسدة للإيقاع والتأزيم مع الحركة الإسلامية، فإن ذلك كله لم يؤثر في قناعة الحكم بضرورة إدامة نسق علاقة إيجابي، وبمواصلة انتهاج سياسة الحفاظ على التوازنات الداخلية، تحقيقا للاستقرار السياسي والمجتمعي، وتجنّبا لتوترات لا مبرر لها.
الإخوان من جانبهم أدركوا هم أيضا أهمية الحفاظ على علاقات جيدة مع الحكومة، وكان يعون جيدا العواقب الوخيمة لتشنج العلاقة مع السلطات الحاكمة في عديد من الدول العربية. وحتى منتصف التسعينيات وتوقيع معاهدة وادي عربة، اتهم الإخوان من خصومهم ومنافسيهم السياسيين بخذلان المعارضة و«تجحيشها» وبالسقوط «في حضن النظام». لم يستفزهم ذلك ولم يدفعهم للتشنج أو الخروج عن إدارتهم الحكيمة والعاقلة لعلاقاتهم مع الحكم.
في السنوات الأخيرة طرأ تحول كبير على نمط العلاقة بين الطرفين، حيث تراجعت جسور التواصل، وغاب الدفء المعهود، ونجح المحرّضون والمغرضون في التصيّد بالماء العكر، وزادت حدّة الاحتقان بين الطرفين وتفاقمت بعدما وضعت الحكومة يدها على جمعية المركز الإسلامي في العام 2007 .
لقاء سياسي، ربما يكون يتيما، جمع الملك بقيادات الحركة الإسلامية في العام 2011، تحدث الملك خلاله صراحة عن فقدان ثقة متبادل بين الطرفين.
وعوضا عن تجاوز أزمة الثقة وتعزيز جسور التواصل، ذهبت العلاقات في اتجاهات غير محمودة، فتعززت حدّة القطيعة، وتزايدت حالة فقدان الثقة، وبات الجانب الرسمي ينظر للحركة الإسلامية بشك وريبة كمصدر تهديد وخطر محتمل، وبدأ يتعامل معها على هذا الأساس. ولا شك أن صعود نجم الإسلاميين في الانتخابات بعد ثورات الربيع العربي، فاقم من حجم مخاوف الحكومة وهواجسها تجاه الإخوان.
زادت حالة الفتور في العلاقة بين الطرفين بعد انقلاب الثورة المضادة على الربيع العربي وإجهاض حراك الشعوب في أكثر من مكان، وبدا واضحا أن الجانب الرسمي أدار ظهره للعلاقة مع الحركة الإسلامية، واعتمد استراتيجية تجميد العلاقة بلا تصعيد أو انفتاح.
فجأة ودون سابق إنذار، بلغ التوتر بين الجانبين ذروته في الأسابيع الأخيرة حين فتح الجانب الرسمي ملف «تصويب» الوضع القانوني للجماعة، وكان واضحا أن البعد القانوني جرى استحضاره لإدارة قضية سياسية بامتياز.
هذه الأيام تبدو الأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات في رسم ملامح العلاقة المستقبلية بين الطرفين. فثمة سيناريو لذهاب الحكومة حتى آخر الشوط في مسار التصعيد والاستهداف السياسي للجماعة عبر بوابة القانون، وهناك سيناريو آخر لم تتضح ملامحه بعد للوصول إلى حلّ توافقي يضع حدّا للأزمة ويحول دون تفاقمها واندفاعها نحو المجهول.
صوت العقل والحكمة هو من ينبغي أن يحضر لدى الطرفين، وتجاوز أزمة الثقة ومدّ جسور التواصل هو المدخل الصحيح لإعادة ترسيم العلاقة.
فالحركة الإسلامية قوة سياسية ومجتمعية وازنة ومعتبرة، وهي ليست دخيلة أو طارئة على المشهد السياسي، وليس من مصلحة في شق صفها أو العبث بمعادلاتها الداخلية، لا سيما في ظل الجبهات المشتعلة في الإقليم، وتصاعد التطرف في الكيان الصهيوني، وهو ما أظهرته نتائج الانتخابات الإسرائيلية بالأمس.