لا يمكن فهم ما يجرى في المنطقة حالياً بمعزل عن الدراسة المتأنية للتاريخ الحديث ، فالشرق الأوسط مصطلح سياسي جغرافي ليس له تحديدٌ دقيقٌ لأنه يتسع ويضيق حسب الهدف المراد منه ، وتشير الدراسات السياسية والتاريخية بأن الشرق الأوسط مصطلح تم استخدامه لأول مرة عام 1901 من قبل المؤرخ الأمريكي الفريد ماهان ، ثم استخدم هذا المصطلح من قبل تشرشل وزير المستعمرات البريطاني عندما انشأ إدارة الشرق الأوسط عام 1921 لتشرف على شؤون العراق والأردن وفلسطين ، وقد كان لمنطقة الشرق الأوسط دور كبير في الاستراتيجيات الدولية بسبب موقعه الإستراتيجي الفريد، إذ يعتبر حلقة الوصل بين قارات العالم القديم الثلاث التي تسيطر على الممرات المائية الهامة وعلى قناة السويس، بالإضافة إلى بحر النفط التي تجثم عليه ، لذا يعتبر الشرق الأوسط من أكثر مناطق العالم أهمية بالنسبة للدول الصناعية ، وهي منطقة يصعب التعاطي معها بمعنى أن التعريف يعد إشكالية بذاته ، هذا المصطلح الجيوسياسي من وجهة النظر الأمريكية الصهيونية تعني خلق نظام إقليمي أوحد تصبح فيه إسرائيل مهيمنة بحكم تفوقها الصناعي والعسكري من ناحية، وبحكم الدعم الخارجي الأمريكي اللامحدود للسيطرة على المنطقة ومواردها من ناحية أخرى في محاولة لاقحامها داخل الجسم العربي كمحاولة للالتفاف على عملية الرفض الإقليمي لإسرائيل الدولة والوجود .
تغير مفهوم "الشرق الأوسط" بعد هزيمة حزيران 1967 وثبات فشل ايدولوجيات المد القومي في الوطن العربي بصياغة رؤية واضحة لأشكال الإصلاح وبنوده ومراحله ، واصبح يعبر عن مدلول جغرافي مختلف يشير فقط إلى الحيز الذي تشغله الدول التي دخلت حرب 1967 ، واضطر صناع القرار الأمريكيون إلى وضع تصورٍ جديد للشرق الأوسط بعد أن تلاقت مع المصالح الإسرائيلية من خلال إعادة صياغة الخارطة الجيوسياسية للمنطقة بما يحقق مصالح الصهيونية العالمية وإيجاد صيغة ملائمة لإدخال إسرائيل في "منطقة لا تجمعها بها أي روابط جغرافية أو تاريخية أو حتى دينية أو حضارية مهما كان نوعها ليخلق مركز إشعاع حضاري وقوة جاذبة ومهيمنة اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وأمنيًّا ومدنيّا من خلال إقامة علاقات اقتصادية وأمنية بين هذه الأطراف العربية وإسرائيل وقد نجحت في ذلك جزئيًّا مع توقيع أنور السادات معاهدة "كامب ديفيد" مع إسرائيل عام 1979 .
بعد تصدع منظومة الأمن العربي إثر حرب الخليج الاولى طرح شيمون بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" وبنيامين نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس" إسرائيل كدولة ديمقراطية بين نظم دكتاتورية، ودولة متقدمة وسط محيط متخلف وكقوة عسكرية لا تهزم ، وقد كان التوقيت الإسرائيلي ملائماً لكسر الطوق المحيط باسرائيل واخراجها من عزلتها وجر العرب الى طاولة المفاوضات كنتجية حتمية للفجوة بينها وبين جيرانها وتوسيع هذا المفهوم ليضم مختلف الدول العربية؛ وظهر ذلك جلياُ في كلمة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب أمام الجلسة الافتتاحية لمؤتمر مدريد عندما قال: "إن هدفنا ليس إنهاء حالة الحرب في الشرق الأوسط، وأن تحل محلها حالة عدم الحرب، إن هذا لن يستمر، لكننا نريد السلام الحقيقي، إنني أتحدث عن الأمن والعلاقات الاقتصادية والتجارية والتبادل الثقافي" ، كما ظهر مفهوم "الشرق الأوسط الكبير" في التقرير الاستراتيجي السنوي لعام 1995 الصادر عن مركز معهد الدراسات الأستراتيجية القومية التابع لوزارة الدفاع الأمريكية حيث تم تحديد جديد للمنطقة التي يشملها فأصبحت من المغرب العربي غرباً حتى الحدود الصينية شرقاً ليشمل الغرب العربي وآسيا العربية وآسيا الوسطى الأسلاميه وجنوب آسيا ، وهكذا يمكن لنا ملاحظة أن "شرق الأوسطية" كمشروع أمريكي إسرائيلي صار يتوسع ليضم جل الدول العربية بعد أن تم إفهام هذه الدول أن التطبيع لا بد أن يتضمن حيزًا أوسع.
وقد تمكنت إسرائيل من تحقيق نجاح جزئي بدعم تام من الولايات المتحدة وتركيا في مجال التطبيع الاقتصادي وتوقيع معاهدة "سلام" مع الأردن في وادي عربة عام 1994 والتوصل لإعلانات أوسلو بين أعوام 1993 و1995 مع سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية، وبادرت قطر إحدى دول الخليج العربي وتونس والمغرب متطوعة بفتح مكاتب تمثيل تجاري لإسرائيل لديها، وزادت وتيرة التطبيع السري والعلني، ومن جانبها أقدمت دول الخليج العربية على إلغاء المقاطعة الاقتصادية من الدرجتين الثانية والثالثة، أي مع الشركات الأجنبية التي تتعامل مع إسرائيل أو لها فروع فيها ، تجاوبًا مع الوعود والتهديدات الأمريكية.
بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 انتهز تيار اليمين المحافظ المسيحي الفرصة لطمس المقوّمات الثقافية والحضارية وتذويب هذه المنطقة ومن هنا برز مصطلح" الشرق الأوسط الكبير" الذي طرحه الرئيس الأمريكي بوش الابن بحجة إيقاف تصدير العنف والإرهاب الناتج عن عدم الديمقراطية في هذه البلدان إلى الغرب ضمن ما سمي خِطَط الإصلاح السياسي والاقتصادي للدول العربية والإسلامية ، و قبلت معظم النظم العربية الدخول في المشروع شرق الأوسطي عندما كان يقتصر على التعاون الاقتصادي والتنسيق الأمني، بل وتسابقت على المشاركة فيه خاصة بعد تصميم إدارة بوش الابن جر الشرق الأوسط إلى دائرة الإصلاح الديمقراطي والسياسي ولو كان ذلك بالقوة، ولو أدى إلى إغضاب الأصدقاء والحلفاء من النظم العربية الموالية التي تعودت على تجاهل الولايات المتحدة لمثل هذه القضايا وتقديم مصلحتها الاقتصادية معها.
بعد هذه القراءة التاريخية المستفيضة ومع إدراكنا أن هناك عوامل قاهرة دفعت الشعوب العربية للخروج إلى الشوارع واسقاط الأنظمة إلا أن ما لا يمكن تجاهله هو حقيقة أن واشنطن هي التي أعطت الإذن بذلك وحددت التوقيت ، وتركت ألية فرض الديمقراطية لشعوبها من داخل هذه الدول بعد أن توصلت إلى أن الديمقراطية لا تفرض من الخارج، واظهار الأمر بان المطالبة بالإصلاح والتغيير جاء نزولاً عند رغبات شعوبها لتحقيق العدل الاجتماعي والديمقراطية مستغلة التطور الهائل في وسائل الاتصالات والبث الفضائي ومواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت وبث معلومات خطيرة غير دقيقة وحقائق جزئية منقوصة غير كاملة لتهييج وتوجيه الشعوب، وبذلك يتم تحقيق غايتان الأولى عدم إهدارها لمواردها وتجنب استنزاف قوى بشرية ومادية واقتصادية مباشرة كما حدث عند استعمارها واحتلالها للعراق والثانية تحسين صورة الولايات المتحدة في المنطقة كراعية للديمقراطية للإبقاء على مصالحها في المنطقة حتى لو كان الثمن تخليها عن حلفائها لأنها وببساطة ستبدل العملاء بالعملاء عن طريق تحضير سيناريوهات جاهزة ، علما أن المظهر الوحيد للتغيير سيكون الانتقال من الحكم الفردي والمتسلط إلى نظام ديمقراطي مفرغ من محتواه والدليل على ذلك ما آلت إليه نتائج الثورات التي قامت في كل من تونس ومصر والتي أدت إلى إزالة راس النظام وثبات رموزه وأشخاصه بمسميات جديدة والهدف الذي تسعى إليه واشنطن هو إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد في عملية يشير إليها البعض بـ " التدمير الخلاق".
من هنا يمكن القول أن الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الاتحاد الأوروبي ستحاول جلب رياح التغيير إلى المنطقة بعد استغلال نقطة غاية في الأهمية وهي أن السلطة الحاكمة في معظم دول المنطقة انفصلت عن القاعدة الشعبية بالإضافة إلى حالة التردي العربي واليأس والقنوط الذي وصلت إليه الشعوب نتيجة لانتشار الفقر وفقدان الأمل بالمستقبل ، لذا ستشعل واشنطن المنطقة العربية بأكملها من خلال نقل عدوى الثورة إذ ليس هناك شيء عفوي بالنسبة لحركات الاحتجاج الجماهيري في الدول العربية فقبل عقدين من الزمن تغيرت الأنظمة التي دعمتها الولايات المتحدة في أوروبا الشرقية عندما بدأت واشنطن بعمليات متزامنة في العديد من البلدان في تلك المنطقة .
يمكن القول أن الخطوط العريضة للاستراتيجية الأمريكية السرية واضحة بالفعل ، فالنوايا والهدف بات مكشوفا لا يخفى على أحد , فنظرية "الدومينو" أو "أنفلونزا السقوط" للحكام والتي استبعدت طويلاً من المشهد العربي وحدثت الأن يمكن فهم أسباب حدوثها اذا علمنا أن مراكز القوى الغربية تتحرك وفقا لبرامج عمل تعكس مصالحها القومية فقط، لان قوى وتيارات التغيير في دول المنطقة لا تملك مشروعا حقيقياً للإصلاح والنهضة يستجيب لمطالب شعوبها ورغبتها في التحرر والتنمية ، ويمكن إجهاض هذا الطرح من خلال محورين رئيسين الأول طرح مشروع للإصلاح والنهضة يستحضر الأبعاد الوطنية والإقليمية والقومية يشمل الدول العربية والإسلامية والتي يجمعها تاريخ وحضارة مشترك ويسعى إلى تجاوز سقف التجزئة القطرية والعمل على إقامة تحالفات عربية – عربية أو عربية – إسلامية ، والمحور الآخر إعادة فتح قنوات الاتصال بين النخب الحاكمة والطبقة الشعبية الكادحة والمهمشة عن طريق خطوات إصلاحية جذرية في السياسة والاقتصاد وإعادة الهيكلة العامة للحريات الشخصية وتوزيع الثروات على نحو عادل ، فمشروع الإصلاح السياسي يمثل اليوم استباقاً لضرورة حتمية مرتبطة بعامل التحول لاثبات أن النماذج التي سقطت غير قابلة للتعميم وحتى لا تكون القمة العربية القادمة قمة تعارف.