في كانون الأول (ديسمبر) 2011، التقيت الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية الإسلامية، بعد حصول حزبه على
37 % من أصوات الناخبين، وسألته عن القاعدة الدينية في الإسلام "لا إكراه في الدين". قلت له إن فهمي لهذه القاعدة هو أنها في اتجاه واحد؛ بمعنى أن لا إكراه طالما كان الشخص غير مسلم، أما إن دخل الإسلام فإنه لا يستطيع الخروج منه. وسألته فيما إذا كان مبدأ الاتجاه الواحد ينطبق على السياسة أيضاً؛ فإذا فاز حزبه في الانتخابات فإنه لن يتخلى عن السلطة إذا ما خسر في انتخابات لاحقة.
يومها، قال لي الشيخ الغنوشي أنني مخطئ من الناحيتين الدينية والسياسية. وأضاف أنه إذا خرج مسلم عن الإسلام، فإن له رباً يحاسبه، وليس بني البشر. وأضاف أنه من الناحية السياسية، لو فاز الحزب الشيوعي بالانتخابات في تونس، لالتزمت "النهضة" بالنتائج، وسلمت السلطة له. في حينه، شكك كثيرون في رأي الغنوشي. لكن حزبه خسر، في الانتخابات التي جرت قبل شهرين، الأغلبية التي كانت له، فتنازل بالفعل عن السلطة.
بغض النظر عن تفسير الفقهاء الدينيين لقاعدة "لا إكراه في الدين"، وهناك تفسيرات عديدة، فإنه يجب أن يكون واضحا أن تفسير الاتجاه الواحد لا يمكن أن ينطبق على الممارسة السياسية، عملا بقاعدة أن الشعب مصدر السلطات، يأتي بمن يشاء للحكم، ويُخرج من يشاء منه.
أكتب هذا بمناسبة انعقاد مؤتمر "الإسلاميون والحكم" في عمان، بإشراف مركز القدس للدراسات السياسية، الذي يديره الزميل والصديق عريب الرنتاوي. حيث تمت مناقشة تجربة الإسلاميين مع الحكم في تونس ومصر والمغرب والعراق وتركيا، وصولا إلى مناقشة تجربة العلاقة بين الإسلاميين والحكم في الأردن.
اذا كان الهدف الاستفادة من التجارب العربية والإقليمية الأخرى في هذا المجال، فيبدو لي أن هناك حاجة ماسة إلى حوار وطني معمق بين الدولة والمكونات السياسية والاقتصادية والمجتمعية كافة، يصل بنا إلى عقد اجتماعي جديد تحت مظلة جلالة الملك، يحدد قواعد اللعبة على نحو ما فعل الدستور التونسي الجديد الذي أرسى مبدأ التداول السلمي للسلطة، وأعطى مكونات المجتمع كافة، بما فيها المرأة، حقوقا كاملة. كما ثبت حرية المعتقد أو اللامعتقد، في سابقة هي الأولى في الوطن العربي؛ فنجح في طمأنة جميع فئات المجتمع إلى أن حقوقها وحرياتها مصانة، بغض النظر عمن يصل إلى السلطة.
أردنيا، لدينا إشكاليتان. الأولى، تتمثل في عدم رغبة الدولة في مشاركة صنع القرار مع أي فئات أخرى، بما في ذلك الإسلاميون. ولذلك، تلكأت في تطوير مثل هذا العقد بالتشارك مع المجتمع، وإقرار القوانين التي من شأنها بناء المؤسسات القوية الحامية للاستقرار المستدام والازدهار المنشود. فكانت النتيجة إضعاف البناء المؤسسي للدولة، وليس إضعاف الإخوان المسلمين تحديدا، فخسر ويخسر الجميع على المدى البعيد. ومن جهة أخرى، وبما يمثل الإشكالية الثانية، فإن جماعة الإخوان المسلمين لم تطور نفسها ليكون لديها خطاب سياسي اقتصادي منفصل عن الخطاب الدعوي الذي لا مكان له في السياسة، ولم تحصل مراجعات سياسية وفكرية جادة لنظرة "الإخوان" لأسس الدولة المدنية الحديثة. وإن تمت هكذا مراجعات، كما حدث في مبادرة "زمزم"، فإن ردة الفعل كانت سلبية باتجاه طرد هذا التيار من الجماعة. خطاب جبهة العمل الإسلامي أقرب للدعوي منه للسياسي.
خلاصة القول إن كلا من الدولة و"الإخوان" أقرب اليوم إلى النموذج المدني المصري الإقصائي، والنموذج الديني المصري الإقصائي أيضاً. ولا يبدو صناع القرار في كلا المعسكرين على استعداد لاستخلاص أي عبر من النموذج التونسي التشاركي، أو مراجعة سياساتهما السابقة مراجعة جذرية لا شكلية. والخاسر الأكبر هو التطوير المتدرج الجاد المنتظم للحياة السياسية والاقتصادية والمجتمعية في البلاد التي تحتاج اليوم إلى التشاركية أكثر من أي وقت مضى، لا الاتهامية والإقصائية ونبذ الآخر. هل من مستمع؟