علينا أن نلاحظ كيف تتراجع الحياة السياسية؛ ليس فقط في العلاقة بين الدولة والمجتمع السياسي، بل وداخل المجال العام، وفي أوساط القوى المعارضة، وتحديدا بعد التطرف السياسي الذي تمارسه القوى الإسلامية، والإقصاء الذي يمارس ضدها. وليست اللغة البرلمانية ونمط الممارسات التي تصدمنا تحت القبة بين وقت وآخر، إلا جانب من أزمة النخبة السياسية وهشاشتها.
حالة النخبة السياسية داخل الدولة ومؤسساتها لا تسر. وحالة النخب السياسية في المجال العام؛ أي المساحة بين الدولة والمجتمع -والتي تتمثل بالنخب الفاعلة في المجتمع المدني، والنخب المتقاعدة، ورموز المجتمعات المحلية، ليست بخير. وحالة النخب في قوى المعارضة بلا طعم ولا ولون، وهي ليست بخير أيضا.
لا تبرر الظروف الإقليمية واحتدام حدة الصراع من حولنا، ولا حتى الأزمة الاقتصادية الحادة، ترك هذه البحيرة الراكدة من دون حراك حقيقي. وفي أضعف الإيمان، استخدام الدولة أدواتها لإعادة التوازن في النخبة السياسية على صعيد تكوين سلطات الدولة ومؤسساتها. وربما يكون العمل الجريء على تنويع مصادر تصعيد النخب السياسية، وبمنهجية جديدة، هو أحد الأولويات المهمة لاستعادة زمام المبادرة قبل فوات الأوان، واستعادة الثقة بوجود ولو حد أدنى من إرادة إصلاحية؛ إذ تأتي أهمية التوازن والتنويع في النخبة السياسية بنفس أهمية محاربة الفساد ومحاكمته.
اتسمت منهجية الدولة في بناء النخب السياسية بالأحادية القائمة على التوازن الجهوي، وبالاستناد إلى مفهوم تقليدي للولاء السياسي، لا يلتفت إلى القيمة الفعلية للانتماء التي يعكسها الإنجاز والكفاءة.
وعلى الرغم من عقود خلت تم الاستناد فيها إلى مؤسسات تقليدية أوجدت نوعا من التنوع المحدود داخل حدود المدرسة السياسية ذاتها، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تفريغا وضعفا غير مسبوق في تكوين هذه النخب الحكومية والبرلمانية، مرورا بالنخب الفاعلة في المجال العام. ولعل ذلك أحد أبرز أسباب الانكشاف السياسي الذي تعيشه الدولة، والذي تُرجم بشكل واضح في ضعف المجالس النيابية المتتالية، وضعف الحكومات، وضعف جيل من رؤساء الوزراء أيضا.
وهذا يعني أن جدية العبور إلى إجراءات إصلاحية فعلية ما تزال بعيدة، وأن ذات المنهجية ما تزال هي التي تقود الدولة نحو طريق مغلقة. ويعني من جهة أخرى أن النخبة التقليدية غير مستعدة لفتح الطريق لتجدد الدولة.
فتح النشاط السياسي للدولة، خلال العقود الماضية، الباب واسعاً أمام عوامل تغيير الولاء السياسي للجماعات والجهات والأقليات والعشائر لصالح نمط جديد من الولاء. وهو للأسف، ولاء شكلي ومصلحي، لم يدشن على أساس فكرة الدولة الوطنية. إذ يلاحظ كيف تخلت تلك الفئات تدريجياً عن وظائفها التي تؤديها مع تغير الظروف. فالتعبير عن التغير في مضامين الولاء والهوية، يظهر أثناء التحولات السياسية، وأثناء عملية التجنيد السياسي. وبالفعل، لم تفرز تلك التحولات بناء علاقة مرجعية راسخة مع الدولة بمفهوميها الوطني والمدني. فأعضاء تلك الفئات كانوا أبناء الحكومات ونخبها السياسية، وليسوا أبناء الدولة؛ وهم قد يغدون "شلة" سياسية مصلحية بعد تقاعدهم، بل وربما يمارسون هواية سل الحجارة من أساسات الدولة.
في هذا الوقت الذي يبدو فيه مشروع الإصلاح معلقا في الهواء من دون أرضية يستند إليها، ومن دون نخب داخل المؤسسات تحمله، تبقى آفاق الدولة الوطنية الديمقراطية مفتوحة، وهي الفرصة الوحيدة للعبور. والمفارقة وفق المعادلات الأردنية الراهنة أنها مرهونة بإرادة الدولة قبل المجتمع.