رغم كل مشاكله الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، ما زال لبنان-هذا البلد العربي الصغير بمقاييس المساحة- قادرًا على تقديم دروس بليغة في فن ممارسات الحياة، والعلاقة بين مكونات الدولة. في هذا الإطار نقرأ فضيحة فساد الغذاء والماء، التي شغلت الرأي العام اللبناني في الأسابيع الأخيرة، بعد ان فجرتها قناة الجديد الفضائية عبر تقاريرها المتوالية عن فساد الطعام والماء، وقبلهما الدواء، ونشرها بالأسماء الكاملة وبالعناوين الواضحة لأسماء المطاعم والمتاجر والمسالخ ومحطات تنقية المياه، التي تبيع مواد غير مطابقة للمواصفات، بصرف النظر عن الانتماء الحزبي أو الطائفي أو المذهبي لأصحاب هذه المنشآت في ممارسة إعلامية شجاعة، ببلد تحكمه الاعتبارات الطائفية، والمذهبية للأسف الشديد. وهنا لا بد من الوقوف عند أول درس يمكننا ان نتعلمه من هذه الواقعة، وهو الدرس المتعلق بدور الإعلام في المجتمع، فعندما يكون الإعلام مهنيًا موضوعيًا منصفًا حرًا، تكون الحقيقة سقفه، ومصلحة الوطن هي بوصلته، ويصبح عندها الإعلام عنصر بناء للوطن، وعنصر إنارة وتنوير للمجتمع، ومصدر قوة لهذا المجتمع؛ بخلاف الإعلام الرخيص الذي تحركه الغرائز والمكاسب الآنية الرخيصة، فتحوله إلى معول هدم للدولة.
درس ثانٍ نتعلمه من ممارسة الإعلام اللبناني، في قضية فساد الغذاء والماء، هي الشفافية والجرأة في الطرح. فقد تم إعلان أسماء المنشآت التي تبيع موادً غير مطابقة للمواصفات والمقاييس، دون أية مواربة أو تمويه، وهذا يشكل رادعًا قويًا لكل من تسول له نفسه ان يمارس أي نوع من أنواع الفساد. بخلاف الأسلوب الذي تتبعه بعض وسائل الإعلام عندما تتحدث عن قضايا الفساد بكثير من التورية والمواربة، وإخفاء أسماء الفاسدين. بل أكثر من ذلك بأسلوب التعميم الذي يشكل غطاء للفساد والمفسدين، فيصبح الإعلام بهذا الأسلوب شريكًا متواطئًا مع الفساد والمفسدين، فيستشري الفساد ويتمادى المفسدون.
درس ثالث كشفته ممارسة الإعلام اللبناني في هذه القضية، خلاصته انه عندما تضعف الحكومات، وتتراخى مؤسساتها عن أداء أدوارها، والقيام بواجبات وظائفها، يطل الفساد برأسه ويتمادى في غيّه، فلو كانت أجهزة الرقابة في الحكومة اللبنانيّة تقوم بواجباتها، وتتابع ما يجري في المنشآت التي ضبطت فيها المواد الفاسدة، وبغيرها من المنشآت الخاضعة لصلاحيات دوائر الرقابة. لما وصلت الحال إلى ما وصلت إليه مما عرضه الإعلام اللبناني. وما ينطبق على أجهزة الرقابة في لبنان ينطبق عليها في سائر الدول الأخرى. فالفساد بكل مظاهره وألوانه يؤشر إلى حقيقة خطيرة، هي ضعف الدولة الذي يتجلى في ضعف مؤسساتها، وممارسة هذه المؤسسات للفساد وأبسط صور هذا الفساد هو إهمال هذه المؤسسات القيام بواجباتها.
درس رابع نتعلمه من هذه الواقعة، هو أن الإعلام اللبناني في غالبيته الساحقة انضم إلى حملة محاربة فساد الغذاء والماء، فحولها إلى قضية رأي عام، ولم يترك مجالاً لفاسد كي يجد منبرًا يضلل به الرأي العام، أو يُسكت صوتًا حرًا، مثلما لم يترك لمسؤول فرصة لمناصرة الفاسدين بذريعة تشجيع السياحة، وحماية المستثمرين الذين صاروا سببًا للكثير من الخراب الذي لحق بالبلاد والعباد. وهنا لا بد من الإشارة إلى ان تحكم اقتصاد السوق الحر الذي صار في ظله الربح المادي هو الهدف الذي يكاد يكون وحيدًا لأرباب هذا الاقتصاد. ومع تخلي الكثير من المؤسسات الاقتصادية عن مسؤوليتها المجتمعية، فتح الأبواب على مصاريعها لكل أنواع الفساد، ما دام هذا الفساد يضمن انتفاخ جيوب أساطين التجارة، ولو أدى انتفاخ هذه الجيوب إلى هلاك الحرث والنسل من خلال الغذاء الفاسد طعامًا للإنسان، أو سمادًا للنبات يُسهم في النتيجة بقتل الإنسان.
درس آخر مهم نتعلمه من هذه القضية، يتمثل في طبيعة العلاقة بين الإعلام ومؤسسات الدولة، فعندما يكون المسؤول قويًا واثقًا من نفسه، لا يخاف الإعلام، ولا يغضب عندما يكشف هذا الإعلام ممارسات خاطئة في دائرة اختصاص هذا المسؤول، بل على العكس من ذلك فإنه يستفيد مما لدى الإعلام من معلومات، بل وأكثر من ذلك فانه يستعين بالإعلام ويحوله إلى سلاح بيده لإنجاز مهماته والقيام بواجباته، وهو بالضبط ما فعله وزير الصحة اللبناني وائل أبو فاعور، الذي سرعان ما التقط ما نشره الإعلام اللبناني حول فساد الغذاء، وما تقدمه مطاعم لبنان من غذاء فاسد ليفتح معركة واسعة، ليس ضد الإعلام، بل ضد الفساد والمفسدين، فوقع التكامل بين الإعلام والوزير، واتسع إطار مواجهة الفساد، وصار المناصرون لهذه الحملة يتزايدون يومًا بعد يوم، وخبت الأصوات التي حاولت ان تنهي المعركة ضد الفساد بفزاعة الاقتصاد والسياحة، وهي الفزاعة التي طالما استخدمت في الكثير من البلدان لتكميم الأفواه، وللتستر على الفاسدين، وقد أبطل الإعلام اللبناني ومعه وزير الصحة اللبناني مفعول هذه الفزاعة، عندما جعلوا سلامة وصحة المواطن اللبناني مقدمة على ما سواها، بما في ذلك الدخل الذي قد يتأتى من السياحة. وهذا درس بليغ على الجميع ان يستوعبوه، وخلاصته أن صحة المواطن وسلامته مقدمة على كل شيء، وأغلى من أموال كل المستثمرين.