وكم مرة تكذب المرأة في اليوم؟ عناوين لدراسات أو أبحاث غريبة يسعي القائمون عليها لشرح وتبرير اللجوء إلى الكذب من قبل المرأة والرجل في الحياة متسارعة الوتيرة بدون أن تسمح لأحدهما بالتوقف كثيرا، والالتفاف إلى الخلف لمراجعة النفس عن كذباتها "الصغيرة" والاعتذار عنها حتى لو كانت النية هي أن تستمر الحياة.
من حيث المبدأ أتشكك كثيرا في تلك الدراسات وكنت قد كتبت عن الموضوع مسبقا، خصوصا وأنها ليست منشورة في مجلات علمية، ولا مستندة لفرضيات بحثية معروفة. وهي لا تتعدى قياسات للرأي أو استطلاعات عشوائية تقوم بها جهات إعلامية متخصصة بشؤون الأسرة والمجتمع. لكن ما يلفت الانتباه لعناوينها البراقة، هو ديدن النفس البشرية الباحثة دائما عما يبرر أخطاءها ويسوقها للذات وللآخر بشكل مقبول، نفسيا واجتماعيا ودينيا في أحيان كثيرة. فموضوع الكذب على سبيل المثال، حين يتم طرحه على قواعد جندرية مثلا، وليس كقاعدة مرتبطة بالأخلاق والقيم العامة وأسس المجتمع السليم، فإننا نسمع ونرى العجب!
في مجتمعاتنا التي تحلي أخطاء الرجال وتغلفها بورق الشوكولاته، وتقدمها على أنها حلوى الحياة "ما عدا الكذب الذي تعتبره ملحا!"، لا تقف على نفس الخط حين يتعلق الأمر بأخطاء المرأة. بل لا تجرؤ على إطلاق تسميتها بالأخطاء إلا إن كانت مقرونة بكلمة "فادحة" مثلا! مع أن النفس البشرية واحدة وإن اختلف الهيكل الخارجي لها، فالرجل حين يكذب حول مصادر دخله يشبه المرأة التي تكذب حول قنوات المصروف، حتى لو كانت تمتلك دخلها الخاص. ذلك أن للرجل أن يخفي بعض الحقائق لأسباب مخفية أيضا، لكن لا تملك المرأة حريتها في التكتم والسرية، لأن تفاصيل حياتها يجب أن تكون مكشوفة لدى الجميع. صحيح أن للمرأة نصيبا من الأخطاء الكارثية التي تهدد حياتها هي قبل أن تحطم في بعض الأحيان صورتها أمام الآخرين، إن لم تتعد إلى أسرتها ومحيطها الذي كان يثق بها أو يعتمد على ثقته بها. إنما هو نصيب لا يذكر بالقياس إلى أخطاء الرجل الذي نصب نفسه وصيا على المجتمع، ورفض أن تشاركه المرأة صناعة القرار أو تعديله، لكنه في نفس الوقت لا مانع لديه أن تتحمل العواقب كافة حين تقع المشكلة. والكذب نموذج جيد لتفسير هذا الوضع العجيب. فالرجل الذي يقيم علاقات "عابرة" هنا وهناك ويطلق تسمياته الخاصة عليها بما يريح ضميره عند باب الدار، لديه استعداد كامل لتحميل المرأة التي يكذب عليها سبب لجوئه لتلك العلاقات، ثم يحمل المرأة الثانية سبب انجذابه إليها! إنه ليس كالمرأة التي تخاف أن تفصح عن تحرش سائق مركبة بها في الشارع، وتعتقد أنها بذلك أخفت سرا عظيما، فلا تنام قبل أن تبوح به وسط دموعها وتوسلاتها لكي يصدق أنها لم تكن السبب!
الأمثلة والقصص على موضوع الكذب بالمئات. ويكفي أن نفتح إذاعة محلية مرة ونسمع "البلاوي" التي يبوح بها الطرفان لتخليص نفسيهما من عذابات الضمير، والتي تكون في غالبيتها قصصا بريئة وأحيانا مضحكة وطفولية. لكننا ولأن كثيرا منا ما يزال متمسكا بفطرته الطيبة حين يتعلق الأمر بالحقوق والواجبات، نجد أنفسنا مكبلين بالخوف والقلق حين نخطئ. وعلينا أن نعترف بأن شعور المرأة بالتوتر من الكذب يتضخم على شعور الرجل بعشرات المرات في مجتمعاتنا التي تقرأ عن الدراسات الأجنبية التي لا يصح أن تنطبق عندنا، حين لا تنطبق الأسس والمعايير. فالمرأة هنا لم تنل نصيبها العادل من قسم الحقوق، لكنها استلمت نصيبها وزيادة في قسم الواجبات. الشاهد في القول إن الكذب ليس ملح أحد ولكن بتورياتنا الأسرية والتفافاتنا الاجتماعية، وفوقها تحمل وصبر المرأة يمر كذب الرجال مرورا كريما، فيما يدوس كذب المرأة فوق الأشواك ليعلق في المنتصف ويبقى شاهدا على "جريمتها".
لو أن استطلاعات مماثلة قامت بها جهات عربية خالصة، أعتقد أن النتائج لن تكون دقيقة بالمرة. فمن سيجيب صادقا عن سؤال: كم مرة تكذب في اليوم؟