بعد أن كان التأميم هو الحل بُعيد الاستقلال عن الاستعمار، انقلب الأمر إلى العكس في البلدان التي استقلت عنه؛ فصار همها جذب الاستثمارات الأجنبية إليها. بل وأكثر من ذلك، صار هذا الجذب استراتيجية تحرص كل دولة نامية على تبنيها لتنمو وتتقدم!
ومن ثم، صارت البلدان تجهد نفسها؛ إدارياً ومالياً وإعلامياً وحركياً وتشريعياً، لجذب استثمارات الأجنبية، معتقدة أن هذه الاستثمارات لا تعرف مسبقاً الكثير عن بيئتها الاستثمارية وفرص الاستثمار التي تتمتع بها.
لكن كل هذا الجهد قلما يأتي بمستثمرين، لأن هؤلاء ينتظرون تلك الجهود ليعرفوا الحقيقة ويغتنموا الفرصة، بل لديهم معلوماتهم المسبقة عن كل بلد يرغبون في الاستثمار فيه، يستمدونها من الاستخبارات "البزنسية" عنه، ويعتمدون عليها في قرار الاستثمار القصير المدى أو الطويل. واستخباراتهم "البزنسية" لا تكتفي بوصف الوضع الاستثماري فقط، بل تتسع لتضع علامة البلد على سلم الأمن والأمان، وتنبؤات عنه للسنوات الخمس أو العشر المقبلة، وبخاصة في مجال القضاء، والتعليم، والبنية التحتية.
ولتلبية هذه الحاجة إلى المعلومات الاستثمارية الاستخبارية اللازمة، نشأت في الغرب شركات استخبارية متخصصة في موضوع الاستثمار والوضع السياسي، يتم بيع منتجاتها الاستخبارية لمن يدفع الثمن ويرغب في اتخاذ قرار بالاستثمار في هذا البلد أو ذاك. وعناوين هذه الشركات ليست سرية، بل هي مكتوبة على الأبواب؛ افتح الإنترنت تجدها.
وإذا كان الأمر كذلك، فالأفضل للبلدان الساعية إلى جذب الاستثمار، أو ما أسميه "الاستعمار الكوربقراطي" (نسبة إلى Corporation) شراء التقارير التي تخصها من تلك الشركات لملاءمة وضعها مع مؤشراتها، بحيث تزيل العوامل السلبية الطاردة للاستثمار فيها، أو تثبت للشركة الاستخبارية خطأها.
***
تشفق على القضاة في البلدان المتقدمة، وبخاصة الأوروبية، عندما تقارنهم بالقضاة في كثير من البلدان العربية والمسلمة حيث يستطيع شاب تخرج حديثاً في كلية الحقوق، وفي أوسط العشرينيات من عمره، أن يصبح مدعياً عاماً أو قاضياً في محكمة أولية، ثم في محكمة متوسطة، ثم في محكمة أعلى ولما يبلغ الأربعين من عمره؛ بينما يتعب القاضي هناك ويبلغ أواسط العمر ولما يغادر محكمة أولية.
وأضاف محدثي: وتشفق على القضاة هناك لأنهم يعيشون في حياة دائمة من العزلة النسبية؛ فلا ينخرطون في حزب أو تنظيم أو نشاط عام، ولا يوجدون في ديوانية، أو ضيوفاً على مائدة، أو في جاهة أو عزاء، كيلا لا يتأثروا بما يسمعون أو يسرب عمداً إليهم ما له علاقة بالقضية أو القضايا التي يطالعون أو فيها ينظرون. إن مثلهم الأعلى هو العدالة التي لا يمكن خدشها برشوة أو دعوة أو علاقة قرابة أو صداقة.. إن همهم الأول والأخير المحافظة على استقلاليتهم الشخصية التامة، ونقائهم الضميري والقانوني، لإحقاق وتحقيق العدالة. إن أيديولوجيتهم الوحيدة هذه راسخة في العقل والوجدان، وبترجمتهما في القرار. وبسببها يصابون بعمى الألوان والأصول والمنابت. أرأيت كيف عذب الفايد الحكومة البريطانية في المحاكم مع أنه لم يكن
يحمل الجنسية البريطانية؟
وأضاف: تصور أن موضوع الدعوى في محكمة عربية كان بالدولار، لكن القرار بقدرة قادر صدر بالجنيه الاسترليني. وأن المبالغ المسبقة التي دفعها المُدان للمشتكي أضيفت إلى القرار، وأن كل المراجعات لتصحيح الخطأ في الحساب أو العملة فشلت في رفع الظلم، بحجة أنه ليس لأحد التعقيب على القرار بعد اكتسابه القطعية.
وقد علق على ذلك فقال: لعل القضاة في هذه المحكمة أو تلك لم يقرأوا حيثيات الدعوى ولم يصوغوا مجتمعين القرار، وإنما صاغه أحدهم أو كاتب المحكمة لغاية في نفس يعقوب، كما اعترف بعض القضاة المتقاعدين لي عندما كنت في إقامة هناك. ومع هذا، لا يكل الإعلام هناك من النفاق للقضاء ووصفه بالنزاهة والعدالة، لأنه اتخذ مرة أو مرتين قراراً أو قرارين في قضايا لا مال فيها ولا عقار، وربما بإيحاء أو بإيعاز من الحكومة.
والنتيجة كما قال: يجب على القضاة أكثر من بقية البشر في العالم مواصلة الالتزام بقراءة حيثيات القضايا كلمة كلمة، وسطراً سطراً، وفقرة فقرة... وإلا فليخلوا المكان لمن يقرأ.