قد لا أكون كاتبا بالمعنى المثير لرقن الأحرف وراء بعضها، في سطر يستطيل وفق ما هو متاح له على الورق، أو في برامج الكمبيوتر الخاصة بالكتابة. فهذه الطريقة في حبس الكلمات والحروف داخل سطر تؤرقني، لأن فكرة "الحبس" بذاتها، تجريد للحرية من فضائها الذي نهتف لتحقيقه في حياتنا.
أنا شاعر، ومعني تماما بالكتابة أيا كان شكلها ولونها وطعمها. أحيانا، أهفو لكتابة نثرية، تتيح لي أن أقول شيئا يمنحه النثر مساحة أرحب من الشعر، ولا غرو أني أؤمن بمقولة سليم بركات "النثر هو البطل"، ذاك أن فيه معجزة الاستحضار المدبر، تلك التي تنبني على طاقة هائلة من المعرفة والرؤية والكشف.
في الشعر، أنت مخلوق آخر، شفاف مزعج ونوراني، تصاب بالضجر من أي شيء يحيط بك وأنت تذهب في نهره المتدفق. إنه كينونة تغار من الهمس، تماما كالزوجة أو الحبيبة، يغار ممن يقترب منه أو حتى يفكر بالمحاولة من الاقتراب.
لذا، أجدني مأخوذا بهذه الخاصية التي تمتح من بئر الإخلاص والنبل، وفيها شرف الامتثال لما يتدفق في، فأذهب حين أنثرُ إلى الشعر، ما يُحدث في بعض الأحيان التباسا لدى من يقرأ ما أكتب، أهو شعر أم نثر، معتمدين على نمطية الفهم الدارج حول الشعر والنثر، من أن الشعر كلام موزون ومقفى، وربما يكون كلاما مشحونا بموسيقى وإيقاعات، بلا قافية، لكن الموسيقى تكفي لاعتباره شعرا، أما النثر لديهم، فهو كل ما يكتب داخل نسق هندسي متوازن، متتابع، يجتمع على فكرة واضحة، تتحدر من مكان معروف، على غير ما يتحدر منه الشعر، الذي يهبط وكأنه من مكان لا مرئي، صعب معرفة منبعه.
يحدث أن يلتبس على من يقرأون أمر الانتباه إلى حرية الكتابة نثراأم شعرا، والتي تتيح لهم أيضا ـ حتى عند صعوبة تفاعلهم معها ـ حرية روحية، تجعلهم يشعرون بغموض وضبابية ما هو مكتوب.
وحتى لا أبدو منكفئا على ما أكتب، فيظن بعض من يقرأون أنني أدخل الفيل من ثقب الإبرة، وألعب لعبة المشعوذين، أقول إن الكتابة هي فعل منسجم مع طلاقتنا في التحرر من أوهامنا اليومية عن الحياة، وخلاص يقودنا لسحر الكلمات والوجود. نحن مطالبون بأن نعيش اللغة، ونرثها ونورثها كما خلقت حرة من كل قيد وسطر وكمين، يقودها إلى جهامة القالب والجاهز والعادي.
ومن يريد أن يعيش حريته، عليه أن يعيش في الكتابة حين يقرأ حرية الكاتب الذي يشبهه، الشاعر الذي يتمناه، العاشق الذي فقده، فالحياة بكل غموضها، أكثر وضوحا من العبودية للأشياء.