«الشتوة» الأولى لها سحرها الخاص، ولها مذاقها الشهي، وتحمل جملة من المعاني الجميلة، والذكريات المحببة على قلوب أهل الأرض، الذين تعلقت قلوبهم بالسماء، حيث يشعرون بنشوة الرائحة المنبعثة من لقاء القطرات الأولى المنهمرة على تلك البقاع الجافة والأودية العطشى، وأخاديد الأرض المغلفة بالشوق الملتهب، فتحيل الأجواء المغبرَّة إلى طقوس رومانسية تطفح بالجمال الممزوج بالأمل والتفاؤل والحب وحسن الطالع.
ما أحوج تلك الوجوه العابسة المليئة بالأخاديد المغبرّة إلى قطرات المطر الأولى التي تعيد الرّي والانبساط الجميل إليها، وتزيل جفافها وتغسل أدرانها الممزوجة بتعكير أهل السياسة، وتعيد إليها لونها الزاهي الذي تغطى بطبقة زيتية معتمة محروقة، بفعل ثلاثية الفساد والحقد والجهل، التي ترعرعت في غيبة المطر، وندرة الغيث.
«الشتوة» الأولى جاءت تغسل الجدران المغبرَّة والأزقة المتسخة، وعتبات البيوت الصدئة مما علق بها من غبار الريح المتراكم عبر الشهور السابقة، وتمسح معالم الصورة البشعة المنظورة التي رسمتها بقايا العابرين على جراحنا النازفة، من أجل فتح الأبواب المغلقة للقادم الجديد، وفتح النوافذ المشرعة أمام هبات النسيم الرطب المحمل بإبتهالات القلوب الطاهرة النقية، وتمتمات الكهول وأصحاب التاريخ الموغل في أعماق الزمن.
ليس هناك ما هو أجمل من صوت نقر حبات المطر على النافذة، وليس هناك أزكى من رائحة لقائها الأول مع تراب الحقل المقدَّس، ولن تجد منظراً أشد روعة من مداعبة الغيوم المثقلة بالخصب لآشجار الزيتون المتمايلة مع الريح، وجذوع أشجار الصنوبر الجذلى التي تغازل الضباب الكثيف، والجداول الطبيعية التي تشكلت وتراكضت بين الأحجار المتناثرة، وتراها تهرب نحو المنخفضات والأودية تبحث عن مستقر ومستودع بسرعة ملحوظة كأنها تسابق الزمن.
والأجمل من ذلك كله، عندما تنقشع الغيوم، وتنزوي جيوش الضباب أمام طلة الشمس الضاحكة، فتتحول الأرض إلى بقع باسمة متلألئة، وسطوع الصخور الملساء تضج بالعزم وتنطق بالتصميم وكأنها نجوم راقصة تعكس أشعة الشمس المتكسرة بعناد واضح لا تخطئه العين، وتخرج الطيور تنفض عنها حبات المطر بكل سرور وحبور.
أتمنى أن تبقى «الشتوة» الأولى إطلالة مستقبلية تحمل غيوم الفرح القادم علينا جميعاً، وأتمنى أن نكون قادرين على حسن استقبال ما بعدها، وصنع الحفاوة اللائقة بمواكب الخير، من خلال حسن الاستعداد والأخذ بالأسباب، حتى لا تتحول إلى كابوس بفعل عجزنا وفشلنا، وما يتمتع به بعضنا من حسٍّ بليد وكسل شنيع وإرادة خائرة مشبَّعة بالملل.
الاستعداد مطلوب منا جميعاً، على مستوى فردي وجماعي، وعلى مستوى شعبي ورسمي، يجمع بين أشكال التعاون الممزوج بالقوة والعزم والتفاؤل والأمل الفسيح، الذي يشكل وقوداً ضرورياً لمرحلة الإقلاع والتقدم إلى الأمام على كل مستويات العمل والإنتاج، والإنجاز الحضاري المأمول.
نود ألا تتكرر الأخطاء القاتلة من أصحاب المسؤولية في هذا الشأن، وأن تكون الشتوة الأولى بمثابة جرس الإنذار الذي ينبه الغافلين، إلى التباطؤ باتخاذ الإجراءات الضرورية والمطلوبة، وضرورة الاستفادة من التجارب السابقة، ولا بد كذلك من معاقبة الذين يكررون الخطأ ذاته مرة ومرة، ولا بد مقابل ذلك من مكافأة المبدع وتكريم الجنود المجهولين الذين يتصدّون لهذا العمل البطولي الذي يتعلق بمصير عامة الناس ومستقبل أبنائهم.