تمر الذكرى العشرون لمعاهدة السلام الأردنية-الإسرائيلية من دون صخب، ووسط برود على السطح لا يعكس عمق الروابط الرسمية وصيرورة مشاريع استراتيجية مشتركة، رغم النفور الشعبي الذي غذّته الغزوات الإسرائيلية على دول الجوار، وانهيار السلام مع الفلسطينيين. يتناقض هذا المآل مع "السلام الحار" المنشود الذي بشّر به مبرمو المعاهدة لدى توقيعها في منطقة وادي عربة في 26 تشرين الأول (أكتوبر) 1994، في حفل مهيب بمشاركة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، كشاهد على إنهاء حال اللاحرب واللاسلم بين الجارين. يومذاك، وقف الملك الراحل الحسين بن طلال على مقربة من رئيس وزرائه د. عبدالسلام المجالي وهو يتبادل الوثائق مع نظيره الإسرائيلي إسحاق رابين. كان الملك مقتنعا بأن فرص السلام قائمة بتسارع على سائر الجبهات، لكي تكتمل الحلقة وتقوم الدولة الفلسطينية المستقلة؛ جوهر الصراع، وبما يسمح بتحليق المعاهدة وفتح الباب أمام تطبيع كامل رسميا ثم شعبيا. لكن الرياح العاتية سارت بعكس أشرعة السفينة الرسمية، ورغبة الملك الشخصية في ترك ميراث سلام يؤمّن للأردنيين حياة أفضل. جنح المسار للأبد عقب اغتيال رابين على يد متطرف إسرائيلي، وجنوح الرأي العام مرة أخرى صوب التشدد والانغلاق. اليوم، بعد عقدين في مختبر تجارب السلام، تغيب أي انجازات سياسية أو اقتصادية ملموسة لدى الأردنيين. لكن الدماء ما تزال تجري في عروق التعاون الثنائي بين الحكومتين، وبخاصة في الشق الأمني والمائي والاقتصادي، في مفارقة مع حال العداء وشح التواصل بين الشعبين. العلاقات الرسمية تأرجحت ومرت بفترات حرجة، لكنها ستستمر. فمعاهدة السلام خط أحمر للأردن الرسمي، المتحالف استراتيجيا مع أميركا؛ راعية إسرائيل. المنغصات لن تختفي، وآخرها فضيحة استخراج وتدمير أجهزة تنصت كان زرعها الجيش الإسرائيلي في عجلون ومناطق أخرى قبل أربعة عقود. الإعلان المتأخر عن هذه الأجهزة هنا أطلق تساؤلات عن دوافع صمت تل أبيب عن هذه "الدفائن" لدى توقيع المعاهدة، ولتزيد شكوك الأردنيين حيال نوايا إسرائيل، وتعمّق الشعور بأنها المستفيد الأكبر من السلام. بموازاة ذلك، يتعاظم غضب شعبي ونيابي بعد لفلفة نتيجة التحقيق في جريمة قتل القاضي رائد زعيتر، وفشل جهود الإفراج عن أسرى أردنيين وفلسطينيين في سجون الاحتلال. ولا ينسى الأردنيون أيضا الخرق الفاضح المتمثل في محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، في العام 1997، في وضح النهار في عمان. لكن غالبية الأردنيين لا تعرف، مثلا، أنه مع اشتداد الحرب في سورية -ممر 60 % من تجارة الأردن والترانزيت مع أوروبا- تحول مسار التجارة مع الاتحاد الأوروبي وتركيا عبر ميناء حيفا. فمنذ مطلع العام 2013، انتقلت 4571 شاحنة إلى تركيا ومنها عبر الميناء المتوسطي، وفق أرقام رسمية توافرت لكاتبة المقال. التبادل التجاري قائم أيضا، وإن سجّل تراجعا في السنوات الثلاث الأخيرة. فحجم المستوردات من إسرائيل انخفض إلى الثلث تقريبا، من 232 مليون دولار في العام 2009 إلى 96 مليون دولار في العام 2013. وراوحت الصادرات -غالبيتها من الكلينكر- عند 64 مليون دولار في العام 2013، هبوطا من 66 مليون دولار العام 2009. والمفارقة أن غالبية البضائع الإسرائيلية واصلت طريقها إلى دول خليجية، بعد تمويه بلد المنشأ. غالبية المصانع الإسرائيلية في المناطق الاقتصادية المؤهلة، المستفيدة من مزايا التصدير لأميركا، أغلقت أبوابها أو قلّصت إنتاجها بعد أن وقّع الأردن اتفاق تجارة مفتوحة مع أميركا. ولا يفضل رجال أعمال إسرائيليون الاستثمار في المملكة بسبب رفض المحامين الأردنيين الترافع عنهم، في حال وقفوا أمام القضاء، وسط اشتداد حملات مقاومة التطبيع على الجبهة النقابية. في الأثناء، وبعد سنوات من بيع أحلام شمعون بيريز، مثل مشروع قناة البحرين والمطار المشترك في العقبة وحديقة السلام في وادي الأردن، يتوقع ساسة ودبلوماسيون استكمال أهم مشروعين مشتركين استراتيجيين بحلول العامين 2017 و2018. لهذين المشروعين أبعاد استراتيجية لكلا البلدين، وهما يتعلقان بصلب أزماتنا الداخلية: المياه والطاقة. الأول، يتعلق بتحلية المياه وتبادلها، وضخ مياه مالحة لإنقاذ البحر الميت. أما الثاني، فيتمثل في توفير احتياجات المملكة من الغاز الطبيعي لتوليد الطاقة لمدة 15 سنة، بدءا من العام 2018. نعم، الغاز القادم من حقل "لفيتان" المكتشف في عمق البحر الأبيض المتوسط قبالة حيفا، سيغذي خزانات شركة الكهرباء الوطنية الأردنية، ومنها إلى بيوت الأردنيين. غالبية لجان التعاون الثنائي تجتمع باستمرار، لكن بعيدا عن الأضواء وسهام انتقاد الشارع الأردني. التعاون الأمني والعسكري والاستخباري على أشدّه، لحماية الحدود المشتركة مع سورية. كما يتعاون البلدان لمواجهة خطر تنظيم "داعش" وأخواته. "المياه" تبقى الأكثر نشاطا بين اللجان المشتركة المنبثقة عن معاهدة السلام؛ حالها حال لجنة الأمن والحدود. واجتماعات لجنة النقل المشترك تتواصل من دون ضجة إعلامية. لجنة المياه، برئاسة وزيري المياه في البلدين، تضع اللمسات النهائية على مشروع استراتيجي بكلفة 900 مليون دولار. وفي إطار هذا المشروع -الذي يعد بديلا عن مشروع قناة البحرين الملياري- توفر إسرائيل 50 مليون متر مكعب من مياه شرب فوق الكميات المتفق عليها في المعاهدة، من خلال مد أنبوب من شمال إسرائيل؛ في مقابل مد خط لضخ كمية مماثلة من مياه البحر الأحمر المحلاة من العقبة إلى إيلات. وستضخ مخلفات المياه المالحة إلى البحر الميت عبر أنبوب بطول 186 كم، لرفع منسوب مياهه التي تتقلص بوتيرة 1-1.5 متر سنويا. كما سيصلنا الغاز الطبيعي عبر اتفاق شراء سيوقع بين المشتري الأردني وشركة "ديليك" الإسرائيلية وشريكتها شركة "نوبل إنرجي" الأميركية، بما يغطي حاجة المملكة. ويدعّم الاتفاق بتوقيع وزيري الطاقة والثروة المعدنية في البلدين. وبموازاة إنعاش الاقتصاد الإسرائيلي، يفترض أن يحل عقد الغاز معضلة الأردن الاقتصادية؛ إذ تخسر شركة الكهرباء خمسة ملايين دولار يوميا نتيجة انقطاع الغاز المصري. بالطبع، تبقى تفاصيل الاتفاق الأخير سرية، وسط معارضة الأردنيين للاعتماد على مصدر طاقة وحيد؛ وبالتحديد منح إسرائيل مفاتيح تحكم بأمن الأردن الاقتصادي. كما أن ذلك يتطلب مد خط ناقل ومفاوضات لتأمين سلامته. في الأثناء، لم يتوقف السفر إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. جل الزوار يبتغون التواصل مع أقربائهم هناك. إذ يستمر عبور الإسرائيليين نحو الأردن -غالبيتهم من فلسطينيي 48- رغم تحذيرات رسمية بعدم سفر الإسرائيليين لعمان. ويستخدم آخرون الطيران الأردني للسفر إلى الشرق الأقصى، وبعضهم يقضّي ليالي في وادي رم والبتراء. ففي العام 2013، دخل الأردن 70 ألفا و940 إسرائيليا، وقرابة 20 ألفا خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2014. في المقابل، منحت السفارة الإسرائيلية حوالي 11 ألف تأشيرة لأردنيين. السفير الإسرائيلي في عمان، داني نيفو، يقابل صنّاع القرار باسٍتمرار، لكن بعيدا عن الأضواء. نيفو سيترك منصبه في عمان الصيف المقبل، بعد أن أمضى 12 عاما في الأردن، نصفها كنائب رئيس للبعثة. وهو يتواصل مع شبكة علاقات في القطاعين العام والخاص، وإن حدّت القيود الأمنية من تحركاته، وبخاصة بعد تعرض موكبه لمحاولة تفجير قبل سنوات. وستحل مكانه سفيرة ساهمت في افتتاح مقر السفارة المؤقتة قبل 20 عاما في أحد فنادق عمان، قبل أن تتحول السفارة اليوم إلى حصن أمني مغلق. ووليد عبيدات، السفير الأردني في إسرائيل، مقيم في تل أبيب، لكنه شبه غائب عن المسرح السياسي والإعلامي بالمقارنة مع النشاط الدبلوماسي المصري، مثلا. سياسيا، يجهد الأردن في كسب تأييد دولي لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على خطوط الخامس من حزيران 1967، عاصمتها القدس الشرقية، مقابل تطبيع في العلاقات بين إسرائيل و56 دولة عربية وإسلامية، بحسب طرح مبادرة السلام العربية. لكن الأردن يدرك استحالة تحقيق هذا الهدف بسبب الوقائع على الأرض. أميركا حليف البلدين تعجز عن إقناع حكام إسرائيل بوقف بناء المستوطنات، التي أحالت الأراضي الفلسطينية إلى سجن كبير بعد 21 عاما على اتفاقية أوسلو وملحقاتها، وباتت تهدد الأمن الوطني الأردني. والسلطة الفلسطينية تتحول إلى مقاول محلي لاحتلال تمدد ليقطّع أوصال الدولة المنشودة، ويريح الإسرائيليين من "وجع راس" إدارة شؤون الاحتلال. هذا الصيف، شنّت إسرائيل رابع عدوان على قطاع غزة، في محاولة لتكسير نفوذ حركة حماس العسكري. وقبله، استهدفت لبنان لليّ ذراع حزب الله، كما شنّت غارات على مواقع داخل سورية وفي جبهة الجولان بحجج مختلفة. وبات غالبية الفلسطينيين على قناعة بأن البناء والصمود والمقاومة هي الطريقة الفضلى لإدارة أزمة الصراع إلى أجل غير مسمى؛ لحين توافر الشروط الموضوعية لتغيير الواقع. تطورات سلبية، وانتكاسات متوالية في مسار السلام، تجعله غير قابل للحياة، إلا إذا وقعت معجزة. وكل تصعيد إسرائيلي يرفع منسوب القلق والسخط الشعبيين في الأردن، ويحرج الحكومة. ورغم استمرار العلاقات الرسمية، يحبس ساسة أردنيون أنفاسهم إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016. يراقبون المشهد السياسي الإسرائيلي، بزعامة ليكودي متحالف مع أحزاب يمينية وتكتل متطرفين، بعضهم يريد حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن. وتواصل عمان إدانة سياسات إسرائيل الأحادية، وانتهاكاتها لقدسية المسجد الاقصى. وتستمر الحفريات حول المقدسات الإسلامية في القدس من كل حدب وصوب، وسط خشية من انهيار حائط البراق، ما سيحرج الأردن صاحب الولاية العامة على هذه المقدسات. في كل مقابلة صحفية، حذّر الملك عبدالله الثاني من ضياع فرصة السلام وانعكاس ذلك على أمن المنطقة واستقرارها. لكن كلماته لا تحرك الحكومة الإسرائيلية وساستها المتطرفين، ممن لا يخشون إظهار نواياهم الحقيقية والعبث بملفي الاستيطان والقدس. كذلك، تستمر مخاوف الأردنيين من مواقف نواب وساسة إسرائيليين يرون في الأردن دولة بديلة، ويطالبون بطرد عرب 48. مع ذلك، تصر غالبية أعضاء فريق التفاوض مع إسرائيل على أن المعاهدة أمّنت اعتراف الدولة العبرية بالدولة الأردنية، معتبرين أن المشاكل بين الدولتين تحل بالتفاوض أو التحكيم. وهم في موقفهم هذا يخالفون غالبية تعتقد أن الأردن اقترف خطأ استراتيجيا في لحظة ضعف، سببتها انتهازية الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي طعن الأردن في الظهر، عندما وقّع تفاهمات أوسلو السرية مع إسرائيل. صحيح أن تطرف إسرائيل العلني بات يطعن الأردن في الصميم، ويهدد أمنه واستقراره؛ كما يرفع ساسة ونشطاء وكُتاب ونقباء، الصوت مطالبين بضرورة البحث فيما قدمه الأردن من تنازلات، والعمل على استردادها، لكن ذلك يظل تفاصيل أمام حقيقة أن المعاهدة التي أقرها مجلس الأمة بالأغلبية، باقية، وأن لا مصلحة لعمان في فك التحالف الاستراتيجي السياسي والأمني مع أميركا وإسرائيل، وإن شابت العلاقات الثنائية منغصات. فالبدائل ليست أفضل وسط زلزلة التحالفات الإقليمية والدولية. وتبقى السياسة فن المستحيل.
عقدان على معاهدة السلام.. ماذا تغير؟
أخبار البلد -