يهتم الرأي العام بكل ما هو حقيقي ومتخيل، لكن الخطوات الحاسمة والقرارات الفاعلة التي لا تكترث بالأوزان، فتصيب مؤسسات اقتصادية كبرى أو شهيرة، تجد صدى كبيرا في أوساط الأردنيين، وتحظى بدعم لا حدود له. ويمكن المراهنة أن قيادتي مؤسستي "المواصفات والمقاييس" و"الغذاء والدواء" تحتفظان برصيد شعبي كبير عز نظيره في زمن انعدام الثقة بالحكومات ومؤسساتها.
السؤال هنا: كيف تتولد الثقة بالحكومة ودورها المنظم لحياة الناس، وفي المقابل كيف تنعدم هذه الثقة أو تتلاشى؟ ما الحقيقة هنا، وما الوهم؟
خلال الأسبوع الماضي، قدم الأردنيون كثيرا من الإطراء لمؤسسة الغذاء والدواء، عندما قام فريق تابع لها بإغلاق مطعم شهير في عمان بالشمع الأحمر، لأسباب تتعلق بسلامة الزبائن وصحتهم. ويبدو أن الأمر يتعدى الاهتمام بأخبار تخص جهة شهيرة، إلى لهفة المواطنين على محاسبة كل من يمتلك وزنا تراكميا، وكانت أجهزة الرقابة لا تقترب منه حتى وقت قريب!
لنا أن نتخيل كيف ستكون ردة فعل الرأي العام في حال قامت أجهزة الرقابة بمحاسبة المنافذ التجارية الكبرى، لاسيما إن كانت هذه المحاسبة ذات صلة بالصحة والسلامة. كذلك، فإن الشارع يتحرك على نحو إيجابي عندما تتم محاسبة أحد "الحيتان". وسيكولوجيا ردات الفعل هذه تتعلق بتعطش الأردنيين للإحساس بالعدل، وأن لا حصانة لأحد في مواجهة تطبيق القانون.
العبرة في كل هذا تكمن خلف إشعار هؤلاء "الكبار" بأنهم ليسوا محصنين، وأن أي مؤسسة اقتصادية مهما كبرت واتسعت شبكة علاقات مالكيها، ليست بمنأى عن المحاسبة؛ فصحة الزبائن والمستهلكين وسلامتهم، تتقدمان على أي اعتبارات أخرى. ومحاسبة واحد من هؤلاء "الكبار" ستعطي مفعولا كبيرا في اتجاهات عديدة؛ إذ سيتعظ الآخرون، فتكون حساباتهم واقعية بعيدة عن وهم النفوذ وشبكة العلاقات، لاسيما وأن الجميع في بلادنا يدعي سلسلة علاقات تتخطى الحدود، من باب إيهام الآخرين بنفوذ مزعوم، حتى وصل الأمر بالأفراد إلى تكرار كلمات على مسامع الآخرين، كلها غرور، ومفادها: "أنت لا تعلم مع من تتحدث؟".
قبل عدة أشهر، خاض مدير عام مؤسسة المواصفات والمقاييس د. حيدر الزبن، معركة كبيرة لمنع إدخال أسطوانات غاز إلى البلاد غير مطابقة للمواصفات. ووقف إلى جانبه وخلفه كل الأردنيين. ومثله سعى مدير عام مؤسسة الغذاء والدواء د. هايل عبيدات، وكوادر المؤسسة المحترفة، وما يزالون، إلى تطبيق القانون بحزم وقوة لضمان سلامة غذائنا ودوائنا. ومن المهم أن نعلم جميعا أن تصدي هذين المؤسستين العريقتين لأي جهة أو شخصية -مهما علا صيتهما- تحاولان خرق القانون واستباحة صحة الناس وسلامتهم، سيؤسس لرأي عام جديد في مواجهة ذوي النفوذ؛ بما يساعد في خلق وعي جمعي واستهلاكي يسهم في تحقيق العدالة، ويقلم أظافر العابثين.
الأردنيون الذين أنفقوا ثلاثة ملايين دينار في المطاعم خلال الأسبوع الماضي، يستحقون خدمات بجودة صحية لا تهاون فيها. ومن حقهم أيضا، وهم الذين يتحملون وزر مديونية تفوق 20 مليار دينار، أن لا يتم التساهل مع أي فاسد أو متطاول على المال العام. وكلما كبرت الأسماء في قائمة المحاسبة، كلما تعززت الثقة بالاقتصاد وبالقائمين عليه. فلا حاجة لمزيد من المؤتمرات والندوات عن "إنجازات" الحكومات ونزاهتها وشفافيتها؛ ما نحتاجه هو فقط أن تعمل مؤسساتنا الرقابية والتنظيمية بصدق، وفق مسطرة القانون، ومن دون أن ترتجف الأيادي تحت مبررات النفوذ والعلاقات الملتبسة.