لكل شيخ طريقته، فقد تعودنا من جلالة الملك الراحل الحسين بن طلال رحمه الله، أن يطل علينا بين فترة وأخرى بكلمة من خلال التلفزيون الأردني، وكنا ننتظرها، ونحبس أنفاسنا إن تنهد، وننشرح إن تبسَّم، فقد كان الحسين يعيد ترتيب الأوراق ويضبط الصفوف من خلال إطلالاته تلك على شعبه، وعَبر فينا ومعنا أعلى الأمواج في رحلة عجّلت برحيله تاركاً إيانا عهده بيد الملك الشاب، عبد الله بن الحسين المعظم.
لم تختلف طريقة حكم الأب عن الإبن من حيث المبدأ لأن الأردن دولة مؤسساتية يحكم فيها الملك بموجب الدستور، ومن المؤكد بأن هناك بصمات شخصية لكل من يلي المسؤولية، فقد كان الحسين رحمة الله يركز على القطاع العام في تأسيس البنية التحتية وقيادة العملية التنموية، بينما يلاحظ بأن الملك عبد الله الثاني يفسح المجال للقطاع الخاص لتولي هذه العملية، وهذا النوع من الفكر الإقتصادي موجود بقوة في الدول الرأسمالية حيث نجح بعضها وفشل في بعضها الآخر. ونحن هنا لسنا في باب التقييم، ولكن مساهمتنا هذه تأتي تجاوباً مع الأوراق النقاشية التي طرحها جلالة الملك، لما لها من أثر كبير على العملية التنموية بشكل خاص.
لقد حملت الورقة النقاشية الخامسة عنوان (تعميق التحول الديمقراطي: الأهداف، والمنجزات، والأعراف السياسية) وهو موضوع في غاية الأهمية بالنسبة لنا، لأنه يفتح الباب لإبداء الرأي حول التحول (الجذري) في نظام إدارة الدولة بإتجاه الحكم المحلي، فنظرة جلالته المستقبلية لخصها بالفقرة التالية:
يتوجب على المشرّعين تطوير القوانين السياسية الرئيسية، بما يضمن التوافق والارتقاء بتجربة الحكومة البرلمانية. كما يجب أن تعطى الأولوية لقوانين الحكم المحلي عبر إنجاز قوانين الانتخابات البلدية واللامركزية أولاً.
إن جلالته يحدد القاعدة التشريعية اللازمة لإنجاز هذا التحول الديمقراطي وهي ثلاثة قوانين ويبتدأ بإثنين منها هي:
•قانون البلديات، يوجد قانون ساري المفعول.
•قانون اللامركزية، جديد.
ويستطرد جلالته في الورقة الخامسة ليحدد تراتبية هذه القوانين ليقول: وفور الانتهاء من إنجاز هذين التشريعين الهامّين، يجب أن نمضي قدماً نحو إنجاز قانون إنتخاب جديد، وسبب هذا الترتيب هو أن موعد استحقاق الانتخابات البلدية القادمة وانتخابات المجالس المحلية للمحافظات يسبق النيابية ويأتي خلال أقل من عامين، في حين أن موعد استحقاق الانتخابات النيابية القادمة يأتي بعد أقل من ثلاث سنوات، بالإضافة إلى أن قانون الانتخاب سيتأثر بمخرجات حزمة قوانين الحكم المحلي، إنتهى الإقتباس.
إن المطلع على مشروع قانون البلديات يلاحظ بأنه مثير للجدل ولا يحظى بمباركة رؤساء البلديات، وهذا أمر مفهوم لأن البلديات تدير خدمات التجمعات السكانية، والحكم عليها سهل من خلال المواطنيين في ظل محدودية مساهمة المواطنين في الضرائب التي تعتبر المورد الأساسي للبلديات، إذن هناك مشكلة أساسية علينا مواجهتها بصراحة يمكن تلخيصها بالسؤال التالي: هل من الممكن التفكير بإسلوب آخر لإدارة البلديات غير هذا الذي أثبت فشله في جميع بلديات المملكة بدون استثناء، واظنه سؤال مشروع ستؤثر الإجابة عليه في تراتبية القوانين التي طرحها جلالة الملك، حيث يتصدر قانون البلديات الحزمة الإصلاحية بالنسبة للورقة النقاشية الخامسة.
ماذا لو ابقت الحكومة على مشروع قانون البلديات كما أقر في مجلس الوزراء، فهل يعتبر هذا تحولاً ديمقراطياً أم أن هذا القانون سيكون مكبلاً للخطوة التالية وهي قانون اللامركزية وبالتالي مكبلاً لقانون الإنتخاب.
قد نفهم تخوفات الدولة من إقرار قوانين للحكم المحلي كما هو الحال في الديمقراطيات المستقرة، ونرحب بمبدأ التدرج في تخويل الصلاحيات، ولكن بشرط أن يكون البديل مدروساً وفقاً لمنظومة (التحول الديمقراطي) كما طرحها جلالته في الورقة النقاشية الخامسة، لا أن تكون ثلاث جزر منفصلة (بلديات- مجالس محافظات- مجلس نواب).
البديل المطروح هنا هو قانون واحد (للإدارة المحلية واسعة الصلاحيات) وليس قانون للحكم المحلي، فنظام الحكم في الأردن هو نيابي ملكي، بمعنى أن الشعب هو مصدر السلطات ويسلفها للنواب لتمثيلهم، ولكن الدستور لم يعطي هذا الحق لأي سلطة أخرى مثل مجالس المحافظات.
إن لمشروع قانون اللامركزية إيجابيات يمكن تلخيصها بإعطاء الناس والمؤسسات في المحافظات فرصة للتدرب على التنسيق معاً لترتيب الأولويات وفقاً للموارد المالية المتاحة، وهذا جيد، ولكن وجود سلطات منفصلة تعمل كل منها بموجب قانون منفصل سيؤدي حتماُ لإعاقة الحركة، وخير مثال على ذلك ما يمكن ان يكون عليه الوضع في محافظة معان مثلاً حيث ستوجد الجهات التالية:
•بلدية معان ويحكم عملها قانون البلديات.
•منطقة معان التنموية ويحكم عملها قانون المناطق التنموية (هيئة الإستثمار لاحقاً).
•مجلس المحافظة المنتخب.
•المجلس التنفيذي، برئاسة نائب المحافظ.
•المديريات المرتبطة بالوزارات مثل الصحة والأشغال والسياحة، ولهذه المديرات أنطمة تعمل بموجبها مثل النظام رقم (36) لسنة 2008 نظام التنظيم الإداري لوزارة الصحة والذي يحدد في المادة (5) منه على سبيل المثال، إرتباط مدير صحة المحافظة بمدير إدارة مديريات الصحة في الوزارة.
لو فرضنا حسن النية والرغبة لدى الجميع في إنجاح تجربة اللامركزية، فهل لنا ان نتخيل صعوبة إتخاذ القرار في المجلس التنفيذي ومن ثم مجلس المحافظة والذي وإن تم، سيم رفعه الى المحافظ والذي له القرار (لإتخاذ الإجراءات اللازمة بشأنها) وفقاً للبند (و) من المادة (8) من مشروع قانون مجالس المحافظات لسنة 2014).
سيدي ... يقول أينشتاين بأن على من يجري التجربة بنفس المعطيات والظروف أن لا يتوقع نتائج مختلفة، فقد سبق وجربنا الأسلوب المنوي إقراره، بحيث كانت المديريات في المحافظات ترفع موازناتها من خلال الوزارات، فهل تسبب ذلك بالتنمية المحلية التي تنشدونها.
وقد يقول قائل، بأن المشاركة الشعبية من خلال ممثلين منتخبين في مجالس المحافظات هي خطوة على طريق التحول الديمقراطي التي عنونتم ورقتكم الخامسة بها، ونقول بإن تجارب الإنتخابات النيابية السابقة لم تفضي على الدوام إلى إختيار الأفضل، بل على العكس حيث سيتصدر المشهد أصحاب مصالح خاصة في ظل غياب الأحزاب، وهي خطوة قد تأتي متأخرة في مسيرة التحول الديمقراطي المنشود.
ولأنها ورقة نقاشية... وبعد ان بينت المحاذير التي قد تنشأ من خلال المضي قدما في قانون اللامركزية على شكله الحالي، فإني اقترح ما يلي:
•دمج مشروعي قوانين البلديات واللامركزية بقانون واحد تحت مسمى (قانون الإدارة المحلية).
•إقرار تعديلات دستورية لإزالة التناقض مع القوانين الجديدة وبالأخص المواد (112) التي تخص الموازنة العامة بتضمينها موازنات المحافظات، والمادة (120) التقسيمات الإدارية.
•إقرار قانون الإنتخاب بما ينسجم مع آلية الإنتخاب الواردة في قانون الإدارة المحلية.
هنيئاً لنا الأردن الذي يسمح للمواطنيين مناقشة جلالة الملك من خلال الصحافة، وما هو إلا إجتهاد قد نصيب فيه أو نخطيء، وكل همنا أن نلقي الضوء على الأوراق النقاشية المطروحة للعموم لما فيه مصحلة لنا جميعاً لإرساء قواعد بلدنا الغالي، المملكة الأردنية الهاشمية.