يتبدد الكثير من الدهشة التي يشعر بها الناس في هذه الأيام إزاء ما يجري خصوصاً من العصابات المتطرفة لو عادوا قليلاً إلى التاريخ، لأن ما يشاهدونه عبر الشاشات التي ترشح دماً ليس طارئاً بل الطارئ هو التقدم التكنولوجي وافتضاح الجرائم بالصوت والصورة معاً، ولو كان لدى العرب قبل قرون كاميرات تصوير ومراسلون لولد الطفل بشعر أشيب وعينين زائغتين!
فالتطرف كان منذ البدء وسيستمر أيضاً، لأنه النقيض الذي يقاس عليه الاعتدال، تماماً كما أن القبح مستمر لكي يتضح مقابله الجمال وكذلك الكذب مقابل الصدق والخيانة مقابل الوفاء. والحلقة شبه المفقودة في كل المعالجات والمقاربات التحليلية لظاهرة العنف هي الحلقة السايكولوجية، وقد بدأت بعض الدول تتنبه إلى ذلك، وحين قرأت أسماء مستشاري الرئاسة في مصر استوقفني اسم الدكتور أحمد عكاشة وهو عالم نفسي له شأن وتزامن تعيينه كمستشار نفسي مع حوار مطول أجري معه تحدث فيه عن ظاهرة التطرف في ضوء مفاهيم نفسية. وقال ان الشائع عن أسباب التطرف كالفقر والجهل ليس صحيحاً، واستشهد بابن لادن وأيمن الظواهري، وكلاهما من أسرتين موسرتين، وفيهما عدد كبير من الأثرياء والمتعلمين، ليتوصل بعد ذلك إلى أن العنف هو استعداد نفسي أولاً، ومعالجته تتطلب ما هو أبعد من المواعظ، لأن الخلل النفسي يحول دون الاستجابة الطوعية لتلك المواعظ.
هذه البادرة في إشراك علماء نفس وعلماء اجتماع لإبداء الرأي في قضايا سياسية ذات جذور اجتماعية قد تدشن مرحلة جديدة، تعترف الدولة فيها أن السياسة وحدها لا تكفي وكذلك الاقتصاد أيضاً فالإنسان لا يحيا بالعلف وحده!
ولو تنبه العرب مبكراً إلى هذا الاعتراف بجدوى العلم في إصلاح ما أفسدت السياسة لتغير الحال كثيراً، لكن الثقافة التي سادت هي الاقتصار على تعريف أرسطو الشهير للإنسان بأنه حيوان سياسي فقط، والحقيقة أنه أشد تعقيداً من هذا الاختزال وقد يمهد هذا الفهم لمراجعة تربويات عشوائية، أفرزت منظومة من القيم والمفاهيم التي تحرض الفرد على الانكفاء داخل شرنقة الذات، وبالتالي تحوله إلى كائن ذرائعي وأناني يتوهم بأنه محور الكون وأن الشمس تشرق لأجله فقط، وأن موته الشخصي هو فناء الجنس البشري.
وما كان لنا كعرب أن نعاني من كل هذا الشقاء الناتج عن ثقافة العنف بكل أنماطها لولا الاستخفاف بالعلم ورجاله!