دعوة أربعين ألفا من جنود الاحتياط في الجيش الاسرائيلي توحي بإمكانية شن هجوم بري على قطاع غزة مع إمكانية استمرار المعارك لمدى زمني طويل نسبيا ومكلفا سياسيا واقتصاديا، إلا أن البعض داخل الكيان الاسرائيلي يعمل على التهوين من هذه الخطوة بالقول إن استدعاء الاحتياط جاء لإشغال المواقع العسكرية في شمال فلسطين التي نقلت منها القوات النظامية الى محيط قطاع غزة، هو جزء من الجدل الداخلي وآليات التعاطي الاعلامي مع التطورات الميداينة.
الجدل الإعلامي جاء مترافقا مع عملية الكوماندوز للمقاومة الفلسطينية في قاعدة بحرية قريبة من مدينة عسقلان، أمر رفع من مستوى القلق لدى قادة الجيش الاسرائيلي من أن يتمكن الجهاز العسكري لحركة حماس من شن هجمات كوماندوز على أهداف عسكرية إسرائيلية اخرى خاصة بعد اكتشاف أنفاق ممتدة داخل الاراضي المحتلة عام 48، هنا نلمح عنصرا جديدا في المعركة مع «اسرائيل» يتعلق بقدرة المقاومة على فرض ايقاعها العسكري، فقدرة اسرائيل على الاكتفاء بهجمات جوية وابتزاز المقاومة الفلسطينية والتضييق عليها ومحاصرتها أمر بات صعبا، فالمعركة قابلة للتوسع والايقاع لم تعد تتحكم به القوات العسكرية الاسرائيلية، فالفلسطينيون اصبحوا مبادرين في أرض المعركة.
في مقابل التطورات الميدانية التي كشفت عن اداء جديد للمقاومة واستعدادات غير مكتملة في الطرف الآخر فإن الأداء السياسي الداخلي في اسرائيل كشف ايضا عن ضعف واضطراب واضح في آلية صنع القرار، فالصراع السياسي داخل الكيان الاسرائيلي يعتبر لاعبا مهما في معركة غزة القائمة الآن، فـ(بينت) وزير المالية يهاجم (نتنياهو) ويتهمه بالضعف والتردد و(ليبرمان) وزير الخارجية ينسحب من التحالف النيابي الذي يجمع حزبه «اسرائيل بيتنا وحزب الليكود»، لكنه لم ينسحب من الحكومة و(ليفني) تستعرض قدراتها في الخطابة في مؤتمر الصحافة مع (بيريز) وتتحدث عن الفرص الضائعة في مفاوضات السلام، خلاصة هذا الصخب والهجوم السياسي ان (نتنياهو) فاشل في الحرب وفاشل في السلام.
الحرب التي أعلنت من قبل الكيان الاسرائيلي لا تتم في ظروف مثالية أو ضمن عملية إعداد مسبق ومخطط له بدقه سواء لـ(نتنياهو) أو وزير دفاعه، فرئيس هيئة الاركان الاسرائيلي يقول إن ما يجري ليس حربا وإنما عملية تصعيد، في كل الأحول المسار ترسمه الاحداث اليومية الميدانية، وقائم على الفعل ورد الفعل وهو ما أقر به بعض الخبراء والكتاب في الصحف الاسرائيلية.
الأمر الأشد بلاغة في مسار الاحداث اليومي وهو مؤشر آخر على الكيفية التي تدار فيها المعركة التصريحات التي يطلقها نتنياهو التي بدأت برغبة كبيرة في الظهور بمظهر القائد الصلب بعد اختطاف الجنود بتهديد حركة حماس ليجد نفسه يتورط في غزة، وهو ما أتبعه بتصريحات أراد من خلالها أن يقايض (الهدوء بالهدوء) ردا على شروط المقاومة في غزة، تبعها بساعات وبعد سقوط الصواريخ على حيفا والخضيرة وتل ابيب والقدس بالقول إننا سنخلع القفازات ما يشير الى رغبة بشن هجوم بري.
أزمة نتنياهو باتت ميدانية وسياسية، فالمقاومة أكثر تحكما بميدان المعركة الآن بتوسيعها مساحة المواجهة وبشكل مفاجئ وعلى غير العادة (قصف حيفا والخضيرة وعملية الكوماندوز) تصعيد مبكر فاجأ الجيش الاسرائيلي بل الساسة، وفي ذات الوقت يواجه نتنياهو ضغوطا سياسية من قبل حلفائه وخصومه ما قد يدفعه الى التورط في هجوم بري يدفع ثمنه مستقبله السياسي، ما يحدث على الارض يضع نيتياهو أمام خيارات صعبة إما وقف الهجوم والذهاب الى هدنة، وإما المضي في حرب طويلة تحتاج الى حسابات معقدة لها تبعات اقليمية ودولية يصعب التحكم بها خصوصا إذا تسيد الاحباط الموقف في الجانب الاسرائيلي، وأصبح الحسم أمرا مستحيلا، وفي الختام يأتي السؤال المباغت والأكثر ضبابية وغموضا من سيطلب وقف اطلاق النار ومن سيرعى مفاوضات وقف اطلاق النار؟ السؤال الذي تمثل الاجابة عنه تتويجا ونهاية لجولة المواجهة الحالية، السؤال الاصعب في المرحلة المقبلة، ففي ضوئه سيقرر مدة المجابهة ودرجة عنفها واتساعها.