ربما كانت نبوءة من صاحبنا، من خلال اطلاعه على مناخات المجلس، وربما أيضاً تسرّبت إليه أخبار عمّا يفكّر به النواب مسبقاً، لكنّ المهم أنّ "المسرحية" التي شاهدناها، في مجلس النواب يوم الثلاثاء الماضي، وما تخلّلها من اتهامات بالجملة للحمارنة، ليست حدثاً عارضاً مفاجئاً، فلها مقدّماتها، وربما فصولها لم تنتهِ بعد!
الاختلاف حول المبادرة وطريقة فرضها (من أعلى إلى أسفل)، وأسلوب التعامل الحكومي معها، وبعض التصريحات التي تصدر من أصحابها في المجالس الخاصة، كل ذلك أمر مفهوم، والخلاف فيه مشروع ومنطقي، ومن الطبيعي أن يثير حفيظة بعض النواب. لكن ما هو غير مقبول ولا مفهوم، ولا منطقي، وما يعزّزّ ويجذّر ويؤكّد الصورة العامة عن المجلس، هي تلك الاتهامات البدائية لكلّ من يقدّم طرحاً سياسياً مختلفاً، فيجد أمامه شتائم معلّبة (العمالة لأميركا، التمويل الأجنبي، تفكيك الدولة والمجتمع، الترويج للوطن البديل والتوطين..الخ)!
ما هو أسوأ من الاتهامات الإدارة الغريبة العجيبة للجلسة؛ إذ يصرّ السادة النواب على منع زميلهم النائب من الحديث وتوضيح موقفه، ويستمرون في كيل الاتهامات له، ويقاطعونه بالصراخ والشتائم، ثم يقوم رئيس المجلس بتحويله هو لكلمة خرجت منه، ردّاً على الآخرين، إلى لجنة تحقيق نيابية، وربما هو القرار الذي يفضح الترتيب المسبق والإعداد البدائي لهذا السيناريو!
لا أقول، كي لا يذهب ذهنكم بعيداً، بأنّ هذا السيناريو أُعدّ بالضرورة من قبل مراكز قرار معيّنة، فهنالك ما هو أقوى منها، اليوم، تيارٌ ينمو ويصعد في المشهد السياسي له طابع محافظ سياسيا واقتصاديا، ويحمل لواء "حماية الهوية الأردنية"، وهي حالة طبيعية لأيّ مجتمع (يتشكّل من محليين ومهاجرين ويتعرض لضغوط سياسية واقتصادية)، ويحظى خطابه في أحيانٍ بتأييد وتعاطف من مؤسسات رسمية.
ومن الملاحظ أنّ هذا التيار (المحافظ) استنفر منذ أسابيع، على وقع خطى كيري في المنطقة، وبدأ يشكّك في طرح قانون الانتخاب حالياً وموضوع أبناء الأردنيات، وأصبح ينظر لأيّ قضية يمكن أن تُطرح بعيون مسكونة بـ"وسواس التوطين"، ما دفع برئيس الوزراء إلى التراجع خطوتين إلى وراء، وبمراكز قرار إلى "رفع الغطاء" عن الحمارنة ومبادرته، مع الإشارة الضرورية، هنا، إلى أنّ هنالك اختلافاً نسبياً بين هذه المراكز في تقييم المبادرة والموقف منها، بين من يراها مزعجة، ومن يراها تهديداً خطراً!
هذه هي الأجواء المحيطة بما حدث يوم الثلاثاء الماضي، لكن أرجو أن تضعوها جانباً، وتفكّروا، سواء اتفقتم أم اختلفتم، مع ما أعتبره أسوأ ما يحدث هذه الأيام، وهو أن تتحول العشائر والعشائرية إلى "كعب أخيل"، فمقتل الدولة والمجتمع، وحتى القيم العشائرية الإيجابية نفسها فيما يجري من توظيف رخيص لها اليوم لتصبح غطاءً للفوضى والاستقواء على الدولة والابتزاز والتنمّر وممانعة الإصلاح، ووعاء "اللغة الهويّاتية" البدائية، بدلاً مما يمكن أن تحمله من معانٍ أخلاقية وإنسانية ومجتمعية إيجابية تعزّز السلم الأهلي والاستقرار المجتمعي!
ما يمارس اليوم من "إرهاب فكري" وتسطيح لثقافة جيل كبير من الشباب وإعدام للقيم المؤسسية وتجاوز لمفهوم المواطنة ودولة القانون باسم العشائرية وحمايتها هو كذبة كبيرة أبطالها نخبة تضخّمت وانتفخت وتكسّبت من انحراف السياسات الرسمية خلال الأعوام الماضية للاعتماد عليها في مواجهة الأطراف المعارضة، فوجدنا النتيجة في الجامعات والمجتمع والثانوية العامة والبرلمان، وما يزال البعض مصرّاً على "رقصة الموت"!