تبدو تركيا اليوم منشغلة بقضية الفساد الكبرى التي دفعت الأمن التركي إلى إلقاء القبض على عدد من أبناء الوزراء الحاليين، ورجال الأعمال، ومن المتوقع أن تتوسع القضية لتشكل ضربة كبيرة لحكومة أردوغان، والمسألة لا تتعلق بمستقبل الأردوغانية في تركيا، فيمكن لحزب العدالة والتنمية أن يستثمر تغيب وجود البديل المناسب، ويستمر في السلطة، ولكن ليس تحت نفس الشروط بعد اليوم، ليس في الصورة الطهرانية الأخلاقية التي حاول أردوغان أن يستثمرها محليا، ولما آتت أكلها معه، بدأ في تصديرها إلى خارج الحدود، بالطبع ليس لأوروبا حيث البضائع التركية ما زالت تصنف درجة ثانية أو ثالثة، ولكن إلى الدول العربية التي انبهرت بتجربة أردوغان.
الأزمة التركية، وضعت فكرة النزاهة التي أخذ يتاجر بها العدالة والتنمية على محك خطير، ومنزلق يمكن أن يدفع لفتح العديد من الملفات التي ستظهر تلاعبات كبرى في عملية إخراج و(مونتاج) الاقتصاد التركي في صورة ايجابية، وسيدفع للتدقيق في الوضع الحقيقي لاقتصاديات تركيا في السنوات الأخيرة، وذلك يسبب صداعا لدى الحكومة التركية التي ضاقت ذرعا بتعليقات بعض الدول، وأخذ أردوغان يهدد بطرد سفراء أجانب تحت دعوى التدخل في شؤون بلاده، مع أنه سبق وأن تدخل بصورة أكثر سفورا وخطورة في الشؤون الداخلية الأخرى.
بدلا من أن يتوجه أردوغان بمحاولة فعلية لترتيب البيت الداخلي في تركيا، وطمأنة الأوساط الاقتصادية، وخاصة من الطبقة الوسطى التجارية والصناعية التي تشكل الهيكل الحقيقي للاقتصاد في تركيا، فإنه توجه مباشرة ودون إنتظار لمعاقبة رجال الأمن الذين عملوا على التحقيقات، فأقال مدير شرطة منطقة فاتح الذي لعب دورا رئيسيا في الكشف عن القضية، بحجة، أنه لم يتم مشاورة المرجعيات العليا في هذه القضية أو إبلاغها.
أردوغان في النقطة الأخيرة يبدو زعيما شرقيا، أكثر منه قائدا ديمقراطيا، ويتناسى أنه موظف في الدولة التركية، وليس سلطانا أو (أبا روحيا)، فمثلا، لم تقم التحقيقات الفيدرالية باستئذان نيكسون وهي تحقق في فضيحة ووتر جيت، هذه مسألة لا يمكن أن يدركها العدالة والتنمية الذي يعتقد بأنه يلعب دور المخلص لتركيا، وأن أتى ليبقى في السلطة، وأن الأردوغانية هي الوريث الشرعي للأتاتوركية.
بعض المبررين، وفي عذر أقبح من ذنب، يرون أن هذه القضية لا تعادل 1% من الفساد الذي كان لدى الحكومات السابقة، ومع أن ذلك ليس صحيحا، إلا أنه يدلل على وجود عقلية غريبة وموبوءة، واختزال خطير وسيىء النية لجميع ما حققته الحكومات السابقة والتي أدت جهودها الإصلاحية لتلافي أخطاء مرحلتي السبعينيات والثمانينيات من التاريخ التركي، وكان نجاحها هو الذي أدى لتمهيد الأرض أمام العدالة والتنمية للوصول إلى السلطة.
بينما كان أردوغان يستعد للانقضاض على خصومه السياسيين، وكذلك طبقة جنرالات الجيش، تلقى ضربة موجعة في وقت حرج، فالانتخابات البلدية اقتربت، وهي جولة مهمة في الساحة السياسية التركية، وكانت الملعب التقليدي للعدالة والتنمية من أجل إنتاج تجربته والتقدم فيها.
متاعب أردوغان المحلية، والتناقضات التي اضطر أن يقع فيها، ومنها مواقفه حيال دول الربيع العربي، كفيلة بأن تلقي بآثار كثيرة على اللعبة السياسية في المنطقة العربية، وخاصة لمن دفعوا بالنموذج الأردوغاني وكأنه غاية الطلب في نهضة العرب.