لم يكن من بدّ سوى أن نخوض التجربة حتى نهايتها؛ بحلوها وعلقمها، لكي نعلم أن الأمور لا بأس بها، وأننا نستطيع المرور عبر نفق الحياة الضيق باتجاه نهايتنا المحتومة.استطعنا أن نحتمل "الاعتقال الإداري" من دون محاكمة لثلاثة أيام كاملة، مع حرمان كامل من الزيارات؛ الرسمية والعائلية ومنظمات حقوق الإنسان.في "المعتقل"، لا بد من أن تعيد ترتيب أفكارك، وتحدق جيداً بالعتمة لترى من أين يأتي النور الحقيقي لحياتك! لا بدّ أن خطاً فاصلاً بين الحاجة والشغف، بين المهم والضروري جدا، تفصل بينك وبين ما عداك.خلال العاصفة الثلجية التي كانت تهيمن على كل شيء في الخارج، تكتشف أن ثمة عاصفة أخرى، لا تقل تأججاً، تمور في داخلك، وتجبرك على توخي الحيطة والحذر، ومحاولة الاستدلال على الطرق السالكة في قلبك وروحك، وتجنب تلك التي تسدها الذكريات المرّة والمؤلمة.ستتعثر، بلا شك، بأمور حاولت على الدوام تجنبها، وستمر على أخرى، مرور الكرام، من دون أن تحاول فتح جراح كنت أغلقتها بكثير من الألم واللوعة. غير أنك ستتوقف عند بعض الملامح طويلاً، لتحاول أن تستكشف السحر الذي تمنحك إياه! خلال ثلاثة أيام فقط، تستعيد شريط حياتك كاملاً؛ تمايز بين مواقف وملامح وطرق، تعرضت لها، وتعرفت بها، وتعرضت لها، وطرقتها. تُجري حسبة مستفيضة حول المغانم والمخاسر، فتكشف، وللمرة الثانية، أن الأمور لا بأس بها، وأن الحياة سوف تسير، رغم كل شيء. حتى فائض الألم، من الممكن أن يُجسّر ما تبقى لك من أيام، لتتأكد حينها أن كل ما من شأنه أن يروّعك قد مرّ بك، واختبرته حتى الثمالة.ما الذي خسرناه في تلك العاصفة الثلجية؟ ما الذي أخذته منا؟ وماذا أعطتنا؟لم نخسر أنفسنا، لكنها أخذت منا الكثير!وضعتنا في زنزانة ضيقة، عراة، أمام أنفسنا، نحدق في لحظة الصدق المطلق، لنرى أننا بالكاد نعرف ذواتنا.أخذت منا أحلاماً امتدت على مدار سنوات، كنا نربيها كأطفالنا، ونحاول أن نبقيها على قيد الصحو والحياة، من دون أن نشعر بالملل، ومن دون أن نشعر، كذلك، بأهميتها لنا.أخذت منا رجاحتنا المدّعاة، وهدوءنا المصطنع، ووقارنا المزعوم، لننطلق بتصرفاتنا من سلّم الحاجات الأولى، متخلين عن جميع "الديكورات" الوهمية التي أضفناها إلى أنفسنا على مدار عقود.أخذت منّا صلابتنا الكاذبة، لننطلق متوسلين أن تمر العاصفة على خير، وأن نعود، كما كنّا دائما؛ أطفالا من دون ذكريات مرّة، "يدوزنون" وقتهم على أجندة اللهو، من غير أن يتحسروا على أي شيء!تلك أمنياتنا على قارعة الثلج والعاصفة؛ أن نعود لاهين بلا جروح عميقة في الروح، ومن دون مقدمات تلازم حديثنا كلما أردنا أن نستجلي أعماقنا، وأن نبوح بقليل مما تختزنه أرواحنا الطفولية من ذكريات صغيرة.m.malkawi@alghad.jo