"خطوة أولى مهمة"؛ بهذه الكلمات وصف معظم وزراء خارجية مجموعة "5+1" الاتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي. الحذر في التوصيف لا يقلل من أهمية الاتفاق؛ فهو بكل الأحوال حدث تاريخي.لم يكن الهدف من مفاوضات جنيف الماراثونية إنجاز صفقة تاريخية شاملة مع إيران؛ تجاوز عقود من العداء والشك المتبادل يتطلب تسويات مرحلية، ستنتهي حتما إلى صفقة تاريخية.بهذا المعنى، فإن التفاؤل الحذر من جانب الغرب، وواشنطن على وجه الخصوص، له ما يبرره، وإن كان ينطوي أيضا على حرص شديد بمراعاة مشاعر الحليف الغاضب من الاتفاق؛ إسرائيل.وإن شئنا أن نؤشر على أهم دلالة للاتفاق، فهي تلك المتعلقة بإسرائيل. إنها المرة الأولى في تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية التي لا تخضع فيها إدارة أميركية للموقف الإسرائيلي؛ لا بل المرة الأولى التي نشهد فيها خلافا أميركيا إسرائيليا على مسألة استراتيجية بهذا الوزن.لقد نجحت إسرائيل، وبفضل السياسة الإيرانية في أحيان كثيرة، بإقناع الغرب أن إيران هي عدوهم المشترك والأول على المستوى العالمي. اتفاق القوى الغربية مع إيران يفض هذه الشركة تماما. إسرائيل ما تزال في حالة انفعال شديد. لكن مع مرور الوقت، ستقبل بالأمر الواقع، وتدرك التحولات العميقة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وفي المحصلة، ستشعر إسرائيل قبل غيرها بالمكاسب المتحققة من التفاهم مع إيران.إذا كان الاتفاق في التوصيف الغربي، مجرد خطوة أولى تمهد لخطوات أبعد كما هو مقرر، فإن له أبعادا إقليمية لا يمكن تجاهلها، تتصل معظمها بملفات عربية، أبرزها الملف السوري. المؤكد أن نجاح مفاوضات جنيف مع إيران، سيفتح الباب لتفاهمات حول "جنيف2" فيما يخص الأزمة في سورية. وربما نشهد في الأيام القليلة المقبلة تسارعا في الخطى لعقد المؤتمر الذي تعثر مرارا.يأبى كثيرون في العالم العربي تقبل هذه التحولات في السياسة الأميركية؛ فعلوا كل ما بوسعهم لإفشال مفاوضات جنيف. وعندما لم يتمكنوا، راهنوا على فشلها استنادا لمواقف أطراف متشددة، كالطرف الفرنسي تحديدا. بيد أن العرب قبل غيرهم يعلمون أن "الأميركي" هو صاحب القول الفصل، وليس غيره من الحلفاء الخمسة.الاستغراق في حالة الانفعال لن يفيد الدول العربية والخليجية على وجه التحديد، وإلا ستجد نفسها في ذات المعسكر مع إسرائيل. أميركا في طور بناء مقاربة جديدة لسياستها الخارجية في العالم كله؛ لقد اتخذت منذ سنوات خطوات ملموسة تدل على هذا التغيير. ولن تقف علاقاتها التاريخية مع الحلفاء العرب عائقا في وجه مصالحها الاستراتيجية والكونية.يتعين على العالم العربي قبول هذه الحقيقة، والشروع في عملية تقييم للوقائع المترتبة على ما يمكن وصفه بخريطة جديدة للقوى والتحالفات الدولية.التسويات الحاسمة ستكون عنوان المرحلة المقبلة في السياسة الأميركية والروسية، وثمة مصالح اقتصادية كبرى تقف خلف هذا الخيار. وسنشهد مثل هذه التسويات في سورية على المدى المنظور، وربما في فلسطين أيضا.سيل من الأسئلة يتدفق بعد "الخطوة الأولى" في جنيف. وينبغي على العرب الاعتناء بالإجابة عليها بدل "الولولة" من غدر الأميركيين وخيانتهم للصداقة.