يقول علم التاريخ واستخلاصاته، اعتماداً على التجارب الحية، الناجحة والفاشلة، لدى حركات الشعوب، إن عملية تغيير أي نظام، وقيام أي ثورة، يحتاج لتكامل عاملين مع بعضهما البعض.
العامل الأول: هو العامل الموضوعي، المتمثل بوجود احتلال أجنبي يصطدم وجوده مع مصالح الشعب الواقع تحت الاحتلال وضد تطلعاته، أو صراع طبقي أي وجود تناقضات في داخل المجتمع، وتعارض المصالح بين قوى وشرائح وفئات مستفيدة من الوضع القائم فتحرص على بقائه والحفاظ عليه، وبين قوى متضررة من الوضع القائم والنظام السائد، فتسعى نحو الثورة والتمرد والعصيان والاحتجاج، وتعمل من أجل التغيير، يساعدها على ذلك، حينما تكون القوى والشرائح المستفيدة من النظام هي الأقلية، بينما تمثل القوى المتضررة من الوضع القائم والنظام السائد، الأغلبية في المجتمع، وتجد نفسها مسحوقة بسبب الفقر والبطالة وتدني الخدمات، وافتقاد العيش الكريم وغياب العدالة والمساواة والفرص المتكافئة، بين المواطنين، وشيوع المحسوبية والفساد والامتيازات، وعدم الاحتكام إلى القيم الدستورية والقوانين الناظمة، وغياب الديمقراطية، والعامل الموضوعي هذا يتمثل باختصار بوجود الظروف الصعبة التي تجعل من حياة الأغلبية قاسية مريرة، تشكل بمجموعها دوافع القيام بالثورة والمطالبة بالتغيير.
أما العامل الثاني: فهو العامل الذاتي المحرك للثورة والقائد لأحداثها، وهو الأداة أو الأدوات التي تقود عملية التغيير وتضع برامجها ومخططاتها وتنظيم فعالياتها والمتمثلة بالجيش أو الأحزاب أو النقابات أو مؤسسات المجتمع أو غيرها من مظاهر التنظيم والتجمع والقيادة والإدارة.
وغالباً ما تتفاقم الظروف الصعبة ونضوج العامل الموضوعي في مجتمع من المجتمعات، وزيادة الدوافع المحفزة للتغيير من ظلم وقهر وعدوان، فتقوم الثورة والاحتجاجات والانقلاب، ولكن بسبب غياب العامل الذاتي المؤهل والقادر على إدارة الصراع وصولاً لتحقيق نجاحاته، يؤدي ذلك إلى فشل الثورة أو تغيير مسارها بسبب عقلية قيادتها كأن تكون متطرفة في أدواتها أو شعاراتها فلا تستجيب لها عامة الناس فتفشل أو أن تكون عديمة الخبرة فتقع في مطبات يسهل الانقضاض عليها من قوى متنفذة، فيتم إحباطها، وهكذا نجد أن العامل الذاتي هو أساس نجاح الثورة والتغيير، مثله مثل العامل الموضوعي، وكلاهما، وتكامل أدوارهما يؤدي إلى نجاح عملية التغيير وإيصالها إلى شط الأمان.
وفي التدقيق بالعالم العربي، إن كان بمجمله، أو بأقطاره المتعددة، نجد أن عوامل التغيير والتبديل مطلوبة وملحة، فقد ترك الحكم التركي الوطن العربي وإنسانه يئنان تحت ضربات القمع والفقر والتخلف، واستجابت الأمة رغم تمزقها، لمطالب التغيير، والتخلص من الحكم الرجعي بكل تبعاته ومظاهره، وشكلت الحرب العالمية الأولى المدخل، حيث كانت تركيا شريكة في الحرب، وجندت قدرات العرب وإمكاناتهم لخدمة الحرب واحتياجاتها، ولكن العرب بمجملهم لم يكونوا مع تركيا وحربها، بل تحالفوا مع خصومها في المعسكر الآخر الأوروبي، وخاصة بريطانيا وفرنسا ومن معهما الذين حققوا النصر على تركيا ولكنهم لم يلتفتوا إلى تطلعات العرب الاستقلالية بعد نجاحهم بالحرب، وخانوا وعودهم للعرب، فتقاسموا مناطق حكمها في العالم العربي فيما بينهم، وقسموا العرب إلى بلدان وطوائف وزرعوا الفتنة فيما بينهم وعملوا على استعمارهم، بديلاً للحكم التركي، فوقع العرب تحت "المزراب" بعد أن تخلصوا من "الدلف" فتخلصوا من الحكم التركي الظالم، ليقعوا تحت الحكم الاستعماري الأوروبي البغيض، وكان ذلك بسبب عدم نضج قيادتهم وسوء تحالفاتهم وركونهم لثقة الدول الاستعمارية الصاعدة، ووقعوا فريسة تطلعات أوروبا الاستعمارية، في نهب ثروات العرب وخيراتهم.
وشكلت الحرب العالمية الثانية محطة جديدة، بولادة معسكر جديد يحمل معايير جديدة من العدالة حيث المساواة في داخل المجتمع، والتكافؤ والندية بين الشعوب، ما ولّد صراعاً جديداً على المستوى العالمي، وحالة استقطاب بين المعسكرين اللذين أنجبتهما نتائج الحرب 1- المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، و2- المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، واستفاد العرب، من هذه النتائج، ومن خبرات الشعوب المضطهدة التي سعت نحو الاستقلال السياسي والتحرر الاقتصادي.
فكانت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، هي مرحلة التحرر من الاستعمار العسكري الأوروبي وانحساره وتبدل موازين القوى فيه لصالح الولايات المتحدة التي تنادي بالديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وتبدلت مظاهر التبعية والاستعمار، بدلاً من أن تكون عسكرية وأدوات محلية ضعيفة تابعة لها، تغيرت باتفاقات سياسية واقتصادية نحو الاستقلال السياسي بطرد المستعمر الأوروبي بأدواته وقواعده، وصعود مكانة الولايات المتحدة واتساع نفوذها وجبروتها، وكانت الجيوش العربية على الأغلب هي عنوان التغيير والثورة كما حصل في مصر والسودان وسورية والعراق واليمن، وبالثورة المسلحة في الجزائر واليمن الجنوبي، وبالاتفاقات التعاقدية، في تونس والمغرب وموريتانيا والأردن وبلدان الخليج العربي.
ولكن مظاهر الاستقلال السياسي لم تُكتمل بالتحرر الاقتصادي، ولم تتوج بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفر الديمقراطية ومظاهر احترام التعددية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع وتداول السلطة، حيث تحكم الفرد القائد أو العائلة أو الطائفة أو اللون الواحد بالنظام السياسي العربي بمجمله، فأدى ذلك على الأغلب إلى حالات التململ نتيجة أمراض الفقر والبطالة وتدني الخدمات وغياب تكافؤ الفرص، وفشل النظام العربي برمته في تحقيق أهداف الشعوب العربية الأربعة 1- الاستقلال السياسي، و2- التحرر الاقتصادي، و3– العدالة الاجتماعية، و4 - الديمقراطية، وجاءت حالات التملل والاحتجاج وصعود قوى مستنيرة في المجتمع مترافقة مع نهاية الحرب الباردة وهزيمة المعسكر الاشتراكي، وانتصار المعسكر الأميركي وحلفائه، في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وبداية التسعينيات فيه.
في مرحلة الحرب الباردة اعتمدت الولايات المتحدة على عوامل محلية عربية لمواجهة المد الشيوعي والاشتراكي وسياسة عدم الانحياز التي قادها عبد الناصر، فكان التحالف الأميركي مع الأنظمة المحافظة والديكتاتورية على السواء، ومع التيار الأصولي الشعبي بتلاوينه المختلفة من حركة الإخوان المسلمين إلى تنظيم القاعدة إلى ولاية الفقيه الإيرانية، إلى السلفيين وغيرهم، واعتماداً عليهم تمت هزيمة الاحتلال السوفيتي في أفغانسان وإلى ضرب الأحزاب اليسارية والقومية والليبرالية وإضعافها، ولذلك كانت حصيلة الصراع خلال الحرب الباردة من 1950 حتى سنة 1990، ضعف وفشل التيار اليساري، والتيار القومي، وغياب التيار الليبرالي في العالم العربي، مع صعود وقوة ونفوذ التيار الأصولي، بتلاوينه المختلفة، ولكنه تصادم مع سياسات الولايات المتحدة لسببين أولهما انحياز الولايات المتحدة للأنظمة العربية غير الديمقراطية، وثانيهما انحيازها لمشروع العدو الإسرائيلي الاستعماري التوسعي، وهذا أدى إلى تحول موقف التيار الأصولي من موقف التفاهم والتحالف مع الأميركيين طوال الحرب الباردة، إلى موقف التصادم والتعارض بعد انتهاء الحرب الباردة، وقد كان ذروة هذا التصادم في عملية سبتمبر 2001 داخل الأراضي الأميركية من قبل القاعدة، والتصدي للاحتلال الأميركي في العراق وفي غيرها من المناطق.
ثورة الربيع العربي مع بداية العام 2011، شكلت محطة جديدة للتفاهمات الأصولية مع الأميركيين وخاصة من قبل حركة الإخوان المسلمين، في مصر وسورية وليبيا والعراق وتونس والمغرب، وقد قام هذا التفاهم على معادلة تتضمن احترام وحماية المصالح الأميركية في العالم العربي وهي:
1- الحفاظ على تدفق النفط نحو أوروبا وأميركا.
2- حماية أمن إسرائيل.
3- بقاء السوق العربية مفتوحة للسلع والبضائع الأميركية وتدفقات المال العربي نحو الأسواق والاستثمارات الأميركية والأوروبية.
4- مقاومة الإرهاب وتعريته.
مقابل ذلك تم رفع الحظر عن حركة الإخوان المسلمين من قبل الأميركيين، وإشراكهم في الحكم، وحقهم في الوصول إلى السلطة ومؤسسات صنع القرار عبر صناديق الاقتراع أو الشراكة مع الآخرين في إدارة الدولة، كما حصل في مصر وليبيا وتونس والمغرب.
لقد نجح التغيير في بلدان الربيع العربي، بتغيير الأنظمة، ولكنها لم تكتمل بسبب تعارض العامل الموضوعي ونتائجه مع سياسات العامل الذاتي وأدواته.
h.faraneh@yahoo.com