ولئن كان هذا ليس جديداً على فكر وممارسات تشكيلات تنظيم "القاعدة” وحركات "السلفية الجهادية”، فإن الجديد هنا هو التقارب الآخذ في التوسع والتعمق بين فروع هذيْن التيارين وفروع جماعة "الإخوان المسلمين”، عموماً، وفي سوريا وليبيا ومصر، تحديداً، خاصة بعد أن أطاح الشعب المصري سلطة "الإخوان” في 30 حزيران الماضي . ولعله ذو دلالة كبيرة، أن يتحول خطاب زعيم تنظيم "القاعدة”، أيمن الظواهري، من تكفير جماعة "الإخوان”، حسب ما جاء في كتابه "الحصاد المر” الذي نشره قبل نحو 20 عاماً، إلى الدعوة إلى التعاون معها .
والدلالة ذاتها ينطوي عليها ما توفره جماعة "الإخوان” من غطاء سياسي ودعم مالي، وإن من دون إعلان، للعمليات الإرهابية التكفيرية التي تنفذها حركات "القاعدة” "والسلفية الجهادية” في أكثر من قُطر عربي، وفي مصر وخاصرتها الرخوة، سيناء، بالذات . كل هذا ليس مفاجئاً . أما لماذا؟
أساساً وجوهراً لأن المسألتين الوطنية والقومية غير واردتين في فكر جماعة "الإخوان” إلا كيافطتين يجري التستر خلفهما لبلوغ "التمكين” كمحطة انتقالية لا بد منها لتحقيق الهدف النهائي: استعادة دولة "الخلافة الإسلامية” . وهو الهدف ذاته الذي تعمل على تحقيقه بصورة علنية وصريحة، وعبر التكفير وممارسة الإرهاب، تشكيلات "القاعدة” و”السلفية الجهادية” . بهذا، وبه فقط، تُفك ألغاز "الحقبة الأفغانية” في تاريخ جماعة "الإخوان”، وأبرزها مثلاً: لغز أن يكون مُلهم مؤسس تنظيم "القاعدة”، أسامة بن لادن، هو القيادي "الإخواني” الفلسطيني، عبد الله عزام، ولغز أن يتحول خطاب أيمن الظواهري "الإخواني” السابق من تكفير "الإخوان” إلى مد الجسور معهم، ولغز أن يربط أحد أبرز قيادات "الإخوان”، محمد البلتاجي، في لحظة غضب وفي تصريح علني صار حجة دامغة ضده، بين توقف عمليات الإرهاب التكفيري في سيناء وإعادة مرسي إلى منصب الرئاسة في مصر، ولغز أن يقول أحد أبرز قيادات "حماس”، ورئيس "المجلس التشريعي” الفلسطيني المنتهية ولايته، عزيز دويك، في لحظة زهوٍ قبل إطاحة سلطة "إخوان مصر” بأسابيع، "إن الجهاد في سوريا الآن أولى من الجهاد في فلسطين”.
لئن كان التقارب بين جماعة "الإخوان” وتشكيلات "القاعدة” و”السلفية الجهادية” تطوراً نوعياً خطراً في سياق ما يشهده العراق وسوريا وليبيا وتونس ومصر من عمليات تقتيل طائفي ومذهبي متصاعدة، فإن انتهازية موقف الاتحاد الأوروبي مما جرى ويجري في مصر يتيح، بلا مبالغة، القول إن الوطن العربي أمام حقبة سياسية اجتماعية اقتصادية جديدة هي الأخطر منذ حقبة تقسيمات سايكس- بيكو في عشرينات القرن الماضي .
بل ولا يحتاج المرء إلى كثير من الذكاء كي يدرك أن كل ذلك يندرج في إطار مخطط يستهدف تجديد شباب مشروع النهب والسيطرة والتقسيم الغربي، ويخدم أول من يخدم قادة إسرائيل، ما يشي بضلوعهم في مساعي تنفيذ هذا المخطط على الأرض لتسهيل الطريق أمام ما يعملون عليه في السر والعلن، أي تقوية كيانهم وانتزاع الاعتراف به "دولة لليهود” . هنا تتضح أكثر طبيعة التحديات والاستحقاقات المفروضة على الأمة . ولو شئنا لقلنا: لمواجهة هذا المخطط وتحدياته فإن على كل عربي استعادة ممارسة السياسة بمرجعية وطنية قومية في صلبها بالإجبار، إن لم يكن بالاختيار، "قضية العرب الأولى”، قضية فلسطين . أما لماذا؟
الوطن العربي اليوم أمام محطة تاريخية مفصلية حاسمة، جوهرها: ليس تمادي المشروع الاستيطاني الاسرائيلي فقط، إنما تقدم المشروعين القومييْن الإيراني والتركي أيضاً، على حساب العرب ومراكز قوتهم الأساسية المراد حشرها في وضعية مفوتة، سواء من خلال إجهاض كل مشروع عربي جاد للتقدم في العلوم والصناعة والسياسة الدولية، أو من خلال تسعير التناقضات العربية البينية والبنيوية وإفشال كل مشروع لبناء دولة قومية، بل وإفشال كل المشاريع القُطرية لبناء دولة وطنية ديمقراطية حديثة ومستقلة اقتصادياً .
وهذا ليس كلاماً من وحي خيال يتوسد نظرية المؤامرة لتفسير ما يجري في أكثر من قُطْر عربي، بل تزكيه مجريات الوقائع على الأرض . فالعراق ما زال غارقاً في دمه منذ تم احتلاله وتدميره، وسوريا ما انفك يفتك بها صراع داخلي تحول إلى صراع عليها، وليبيا صارت دولة ميليشيات بامتياز، والسودان انفصل جنوبه عن شماله المرشح للمزيد من التقسيم، واليمن مرشح للانقسام مجدداً، ومصر تضربها موجة إرهاب تكفيري، حالها في ذلك حال أكثر من دولة عربية .
يحيل كل ما تقدم إلى أن تيارات "الإسلام السياسي” لدى الأمم غير العربية، كالأمتين الإيرانية والتركية، مثلاً، تعاملت مع موضوعها القومي بفهم مغاير للفهم الذي تبنته حركات "الإسلام السياسي” العربية، خاصة جماعة "الإخوان المسلمين” . ففي حين نجد أن جماعة "الإخوان المسلمين” حاربت ولا تزال تحارب كل مشروع قومي عربي، والمشروع الناصري بالذات، نجد أن كلاً من إيران الخميني وتركيا أردوغان حافظت على كيانها القومي، وتعاملت مع العقيدة كمصدر شرعية في المحيط .
ما يعني أن جماعة "الإخوان المسلمين” في غير وارد التعلم من حقيقة تاريخية، هي: في نهاية القرن السادس عشر كان هناك مشروعان في المنطقة: المشروع العثماني القائم على استحلاب الخراج والريع والتمدد العسكري في الأمصار المفتوحة، وأولاها الوطن العربي، والمشروع الفارسي القائم على منافسة المشروع العثماني عبر الحد من امتداده إلى بلاد فارس والحفاظ على الطبيعة الصفوية للدولة وترسيخ مفهومها القومي وإبقائها كياناً مستقلاً، ما جنبها الخضوع لتقسيمات "سايكس بيكو” الاستعمارية الغربية لأنها لم تكن ضمن تركة "الرجل المريض”، بل ومكنها في العام 1925 من قضم منطقة الأحواز العربية، (منطقة الشيخ خزعل)، الغنية بالنفط ويبلغ تعداد سكانها الآن 8 ملايين نسمة .
بينما أسس كمال أتاتورك بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية تركيا الطورانية بالقول: "حدود تركيا حيث تكون اللغة التركية هي السائدة”، ما جنّب تركيا التقسيم والتفتيت، بل وحافظ على جنوبي الأناضول، «المنطقة الكردية في تركيا»، ولواء الاسكندرون العربي تحت سيادة الدولة التركية .
ما يعني أن ضحية نشوء الإمبراطورية العثمانية وتفككها وتقاسم تركتها بين قوى الاستعمار الغربي كانت العرب كقومية، وليست تركيا التي عادت إلى حدودها القومية وحافظت على كيانها القومي، ولا إيران التي حافظت بدورها على كيانها القومي . فهل تتعلم قيادة "الإخوان” وتكف عن خطيئة محاولة استعادة سلطتها، بدعم أمريكي وأوروبي انتهازي مشبوه، وبإسناد أكثر شبهة توفره تشكيلات "القاعدة” و”السلفية الجهادية” الإرهابية؟