يشعر الأردن بلسع الرياح التي تهبُّ من غير جهة. الرياح التي لا ريب أنها قادمة، التي لا بدَّ أن تهب. رياح تونس وصلت مصر رغم قول المكابرين إن مصر شيء وتونس شيء آخر. ولكن لِمَ مصر شيء آخر؟ إنه الكِبْر. إنه غرس الرأس عميقاً في الرمل. كلا يا سادة مصر ليست شيئاً آخر وها هي تؤكد أنها 'ولاَّدة وفيها الطلق والعادة'. ها هم أحفاد انتفاضة يناير الـ 77 يعيدون الاعتبار لـ 'أم الدنيا' التي جثم على صدرها الكركدن البليد ثلاثين عاماً وشلَّها تماماً وكان، حتى الأمس، يخطط لتركها 'عزبة' لابنه ورجال أعماله.
في الأردن، اليمن، الجزائر، وفي غير مكان عربي منكوب بالقمع والفساد يقولون: نحن شيء آخر. ولكن كلا. لستم شيئاً آخر. الداء هو الداء. العلة نفسها. الفاسدون، الأمنيون، المصفقون، ناهبو أرزاق الناس، الداعسون على أعناقهم هم هم. الوجوه مختلفة لكنَّ الفساد واحد. الوجوه مختلفة لكن الاستئثار بالسلطة واحد، الوجوه مختلفة لكنَّ إطلاق يد الأمن العتيّة في الناس واحد. المرض واحد. الأعراض واحدة. ولا بدَّ أن استجابة هذا الجسد المنتهك، المُذل، المدعوس عليه واحدة.
يشعر الأردن بلسع الرياح الهبوب. لا بدَّ أن يشعر بها، لأنها تهبُّ فعلا ولا يجدي غرس الرأس في الرمل، لا يجدي الترقيع في الثوب البالي، ولا النفخ في القرب المقطوعة. يقول الملك عبد الله الثاني إن المسؤولين الذين يجورون على المواطنين يحتمون به. يقولون للناس المبخوعين، أصلاً، من كل ما هو حكوميٌّ حتى من جباة المياه والكهرباء وسعاة البريد: 'في توجيهات من فوق'! ولكنهم لم يفعلوا ذلك إلا لأنهم يعرفون أنهم محميون. يعرفون أن لا أحد يحاسبهم. فمن يحاسب من؟ البرلمان؟ هذا الديكور الكرتوني الهزلي؟ تلك الزَّفة العشائرية المعيبة؟ القضاء؟ هذا الذي يكاد لا يعرف استقلالاً عن السلطة التنفذية؟ الإعلام؟ ذلك البوق التهريجي السقيم؟
'في توجيهات من فوق'! هذا ما قاله الملك عبد الله الثاني شاكياً مسؤولي حكومته للناس. إنه يعرف، إذن، تلك الكليشيه التي يعرفها الأردنيون جيداً. لقد وصلته وها هو يقولها بالعامية الأردنية بالحرف الواحد. فماذا ينتظر كي يبدأ في قطع دابر من يحتمون وراء ظهره أو يلوّحون بسيفه؟ من يفسدون ويخيفون الناس ويكذبون عليهم بأن هناك 'توجيهات من فوق'؟ كانت 'هبَّة نيسان' العتيدة أقل احتشاداً بالغضب وطفحان الكيل والمرارة مما هي عليه الأمور اليوم ومع ذلك عجَّلت، من دون إبطاء، في إجراء انعطافة في الحياة السياسية الأردنية. اليوم 'هبَّة كانون' أقوى. ها هي تعصف بأنظمة عربية أشدّ قبضة أمنية من الأردن. لقد خلعت 'زين الهاربين' من عرشه المحمي بنحو ربع مليون رجل أمن. ها هي تقترب من الكركدن العجوز في 'مصر الجديدة'. لم يعد المنتفضون المصريون يتحدثون عن خبز ووظائف. سقف المطالب ارتفع. اسمعوا هدير الشباب في شوارع المدن المصرية: الشعب يريد إسقاط النظام. ليس أقل من ذلك. ليس أحمد نظيف. ليس العادلي. ليس المومياء صفوت الشريف.النظام. النظام كله.
لا بدَّ أن الملك عبد الله الثاني يعرف ما يجري في الفضاء العربي.
لا بدَّ أنه يسمع الهدير ويستشعر سخونة رياح كانون.
فلماذا لا يفعل شيئاً قبل أن تشتد الرياح سخونة؟
***
هناك شباب أردنيون مثل الشباب التونسيين والمصريين يعيدون خلط الأوراق ويغيرون قواعد لعبة القط والفار المستقرة بين النظام والمعارضات التقليدية. تلك اللعبة انتهت. والشباب لم يعودوا يقبلون بعمليات تجميل للحياة السياسية والاقتصادية. إنهم يريدون تغييراً جذرياً في جوهر العملية السياسية والاقتصادية. هناك حركات وأطر وتجمعات وحملات تعمل بالطريقة نفسها، تقريباً، التي عمل بها شباب تونس ويعمل بها حاليا شباب مصر. من تلك الحركات وصلتني رسالة باسم 'الحملة الوطنية الاردنية للتغيير' التي تطلق على نفسها اختصاراً اسم 'جايين'. وهذه مطالبها التي أضم صوتي إليها مع إضافات أخرى يبدو أن الحركة لم تنتبه إليها، وبدونها لا يمكن الحديث عن تغيير فعلي في البلد:
ـ إقالة حكومة الرفاعي بصفتها تتويجاً لسياسات حكومات متعاقبة أوصلتنا إلى ما نحن فيه، وعلى أساس تغيير النهج وليس تدوير الكراسي.
ـ ''تشكيل حكومة إنقاذ وطني.
ـ 'إصدار قرار رسمي بإنشاء نقابة المعلمين.
ـ 'إنشاء محكمة خاصة بملفات الفساد الكبرى بما فيها ملفات الخصخصة وبيوعات القطاع العام، واسترداد أموال الشعب وإعادتها إلى الخزينة.
ـ إعادة هيكلة القطاع العام.
ـ ' إنشاء وزارة للتموين بصلاحيات واسعة تكون مهمتها فرض السيطرة الحكومية على سوق السلع والخدمات الأساسية التي تشكل أساس معيشة العائلة الأردنية.
ـ ''إقرار قانون ضريبي يقوم على تخفيض الضريبة العامة على المبيعات وصولاً إلى إلغائها.
ـ ''فرض ضريبة تصاعدية ـ وفقا للدستورـ على الدخول والأرباح بكل أنواعها، لمعالجة أزمة الموازنة العامة جذريا، وتمكين الخزينة من الإنفاق على البرامج الاجتماعية، وتقليص التفاوت الطبقي.
***
هذه مطالب الحد الأدنى. هذا أقل شيء يمكن فعله للدخول في عملية إصلاح جذري للحياة السياسية في الأردن. لم تتحدث مطالب حركة 'جايين' عن قانون الانتخاب الحالي. هذا ينبغي تغييره. فلا تغيير، بالفعل، ما لم يطل قوانين أساسية، في مقدمتها قانون الانتخابات المفصل على مقاس وجهاء وزعامات تقليدية أو 'رجال أعمال' لا أحد يعرف كيف صاروا 'حيتاناً' بين عشية وضحاها. ينبغي للحركة الاحتجاجية الاردنية ان تركز على هذا الموضع. الإصلاح الحقيقي هو بوضع قانون انتخابات يعيد الحيوية للشارع الاردني وينتج برلماناً ديموقراطيا معبراً عن رأي الناس.
***
أكتب هذه الكلمات والجيش المصري ينزل الى شوارع القاهرة. تتزاحم في رأسي الأفكار وتتداخل بين ما هو أردني ومصري وتونسي ويمني. لأن الأحوال متشابهة وربما تتشابه تطوراتها ونتائجها. فما عجزت قوات الامن المصرية الجبارة عن تحقيقه ضد الناس لن ينجح فيه الجيش خصوصا وان تدخل الأخير في الشارع المصري الذي لم يحدث من انتفاضة الـ 77 يصعب التكهن بمآلاته. فهو قد يكون مقتل نظام مبارك. حفر قبر نظامه بيديه.
***
أعود إلى الموضوع الأردني وأقول إن حركة الناس في الشارع صارت تسبق أي تحرك آخر. نريد أن نرى تغييراً حقيقيا في الأردن. نريد اصلاح الحياة السياسية برمتها. وهذا ينبغي أن يحدث عاجلا، وربما عاجلا جداً.
عاجل، بل عاجل جداً
أخبار البلد -