حدد جلالة الملك خمسة أركان للديمقراطية المتجددة, و أدوارها في الورقة النقاشية الثالثة من أجل الوصول الى الاصلاح الشامل. و الورقة الثالثة التي نحن بصددها هي استكمال لرؤية جلالته للاصلاح في الورقتين النقاشيتين الأولى و الثانية و أدوار كل مكون في نظامنا السياسي بما فيها دور الملكية. و في تصوري أن نهج جلالته في تحديد الأدوار لكل مكون سياسي لم يكن عشوائيا و لكنه قائم على أساس علمي من حيث التكامل و التناغم و الشفافية و الترابط بين هذه الأدوار القائم على فكر سياسي مستنير معاصر.
ان جلالته عندما قدم هذه الأوراق, أطلق عليها مسمى الأوراق النقاشية, أي لمناقشتها حسب الأصول المتعارف عليها للنقاش. و لو كان يهدف غير ذلك لأصدرها على صورة ارادة ملكية أو أوامر ملكية. اذن هي دعوة لكل مواطن قادر على النقاش و يملك أفكارا لاثراء هذه الأوراق و المشاركة في آرائه بكل حرية.
حدد جلالته النظام السياسي في خمسة أقسام هي: الأحزاب السياسية و مجلس النواب و رئيس الوزراء و مجلس الوزراء و الملكية و المواطن و أسند الى كل ركن أدواره المناطة به كما يراها على الشكل التالي:
أولا: دور الأحزاب السياسية: ان الدور الرئيس للأحزاب هو تحويل ما ينادي به الأفراد الى خطط عمل مشتركة, و أن يكون هناك عددا محددا من الأحزاب ذات الحجم و البعد الوطني قادرة على التنافس. و هذا يتطلب زمنا يمتد لعدة دورات نيابية و يكون بديلها وجود ائتلافات برلمانية و هناك دعوة لقيام أحزاب قوية قائمة على برامج و على قواعد شعبية.
ان حديث جلالته حول دور الأحزاب السياسية واضح و مفهوم و لكن هناك تحديات رغم وجود الفرص لهذه الأدوار مثل العدد الكبير لهذه الأحزاب و صغرها و كما قيل أن الزحام يعيق الحركة فاذا لم تستجب هذه الأحزاب لهذه الدعوة و بخاصة ذات الأفكار المتقاربة مثل اليمين و الوسط و اليسار فان المسيرة الديمقراطية ستبقى متعثرة و لن تكون الائتلافات بديلا مناسبا للحكومات الدستورية البرلمانية. و لهذا فان الكرة في ملعب الأحزاب السياسية.
ثانيا: دور مجلس النواب: و في السياق نفسه طور جلالته الدور لمجلس النواب لنجاح الديمقراطية المتجددة. ان هذا الدور يتمثل في تشريع قوانين ذات أولوية و ممارسة دورة في الرقابة على الحكومة و مساءلتها على ما تتخذه من قرارات و بدوره يخضع مجلس النواب لمساءلة المواطنين. و هنا أود أن أقف عند النقطة التي تقول: يخضع مجلس النواب لمساءلة المواطنين و هي اضافة جديدة لم تكن موجودة في قررات سابقة حيث أن النائب لا يخضع للمساءلة الا في حالات محددة ليس من ضمنها مساءلة المواطن له قد تؤدي الى حل مجلس النواب. و من أدوار النائب أن يوازن بين مسؤولية التعاون و مسؤولية المعارضة البناءة. ان النواب يحملون هموم مناطقهم و قواعدهم الانتخابية من جهة لكن عليهم العمل من أجل تحقيق المصالح العليا للوطن.
ان منظومة الأدوار التي طرحها جلالته لمجلس النواب لا خلاف حولها بل تمثل وجهة نظر الشركاء جميعا في اقامة الديمقراطية المتجددة. و لكن الخوف هو أن بعض النواب لا يدركون مدى خطورة الدور الذي يلعبه المجلس فيتجاوزون في دوره ما قد تطرحه مدونة السلوك التي اقترحها جلالة الملك و التي قال عنها بأنها ملزمة. ان تعود بعض النواب عبر هذا التاريخ لدور مجلس النواب الملتبس أدى الى حله في أزمان قياسية.
و اذا كان جلالته قد تجاوز بعض المثالب لمجالس النواب فهذا يعود الى خلقه الهاشمي الذي يترفع عن المساس بقدسية الانجاز الكبير و ثقته بمجلس النواب القادم و الدروس المستفادة من العملية الانتخابية و على النواب أن يدركوا المعنى السامي لهذه الثقة.
ثالثا: دور رئيس الوزراء و مجلس الوزراء
ان المطلوب من رئيس الوزراء و مجلس الوزراء وضع برنامج عمل يمتد لمدة أربع سنوات و تنفيذه و تعميق نهج الحكومات البرلمانية. هذا مع نيل الثقة النيابية الدائمة و التعامل بشفافية مع النواب و المواطنين و الحرص على العمل الميداني. ان الخروج عن هذا الدور سيؤدي في النهاية الى خلل هذه العلاقة و بخاصة التوازن بين السلطات الثلاث و تقصير عمر الوزارات أو البرلمانات. أن خلاصة القول عدم استقواء أي من السلطات على الاخرى و بالتالي "عرقلة” نجاح الديمقراطية المتجددة و لا بد من التحذير من الجمع بين موقع الوزير و النائب في وقت متزامن قبل نضوج العمل الحزبي مما يشكل عقبة في عملية الاصلاح الشامل أو التقدم نحو حكومة برلمانية.
رابعا: دور الملكية
في اعتقادي بأن الكثيرين غاب عنهم مناقشة دور الملكية لولا أن جلالته تعرض لهذا الدور من منطلقات جديدة, جعل منها مكونا رئيسا لعملية التطور السياسي. ان جلالته قد طالب بتطور الملكية بموازاة الأدوار الأخرى لمكونات النظام السياسي. ان الملكية الهاشمية تتبع نهجا يستشرف المستقبل و المحافظة على دور الملك كقائد موحد لحماية المجتمع من الانزلاق نحو أي حالة استقطاب. ان مراجعة دور الملكية الهاشمية كما حددها الملك تشكل عبئا ثقيلا و تغطي مسؤوليات كثيرة تصدى لها جلالته. هذه الأدوار لا تتعارض مع المكونات الأخرى بل تتكامل مع أدوارها و تتحمل جزءا من أعبائها. فالملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة و الأجهزة الأمنية و حامي الدستور و المسؤول عن حيادية هذه المؤسسات بما فيها المؤسسات الدينية.
و اذا كانت الملكية الهاشمية قد عرفت طريقها و حددت دورها في مجالات الاصلاح فان هذا يستدعي من الأقسام الأخرى في نظامنا السياسي أن لا تقف مترددة في استكمال أدوارها و تحقيق أهدافها كشرط مسبق لانجاز الاصلاح الشامل.
خامسا: دور المواطن
يشكل دور المواطن اللبنة الأساسية في بناء النظام الديمقراطي. و انخراط المواطن في الحياة العامة ضروري من أجل تطوير نظام الأحزاب الأساسية. و المواطن دوره أساسي عند الادلاء بصوته الانتخابي لأنه عندها يحق له مساءلة النواب عن أدائهم.
كما أن جلالته أكد على مشاركة المواطن في انتخاب ممثله سواء في مجلس النواب أو البلديات أو النفايات أو الجامعات و تشكيل قوى ضاغطة عن طريق تأسيس تجمعات و التفاعل عن طريق التواصل الاجتماعي و هكذا فان جلالته لم يترك ثغرة لأحد أو عذرا للتقاعس عن أداء دوره لانجاح الديمقراطية المتجددة.
ان مراجعة تحليلية لهذه الأدوار لكل مفردة من نظامنا السياسي يجعلها متوازنة و متكاملة من أجل الوصول الى الاصلاح الشامل. و كما قلت في السابق و اثناء العبور من خلال هذه الأدوار فان لكل قسم من نظامنا السياسي قيمة مضافة لا تقل اهمية عن الأدوار الأخرى. و علينا أن نعلم بأنه ليس من السهل انجاز هذه الأدوار اذا لم تكن هناك قناعة و ارادة و مصداقية في التعامل و أن نبتعد عن التنظير لأنه الأشد خطورة في كل منهج اصلاحي و أن لا يلقي كل طرف بمسؤولية أدواره أو جزء منها على الأطراف الأخرى.
ان الورقة الثالثة ليست نهاية المطاف رغم اهميتها في رسم خارطة الطريق الاصلاحي أو المنهج العلمي لتكامل الأدوار, حيث يبدو لي بأن الديمقراطية متجددة و هذا معناه تطوير الآليات و الأدوار و المتابعة.