ينهمك «عقل التأزيم في الدولة، هذه الأيام، بتقليم ما تبقى من أظافر الإعلام الرسمي والخاص على حد سواء، وقد تعدت وصاية هذا الإعلام جريدتي «الرأي» و«الدستور» التابعتين للحكومة من خلال حصة مؤسسة الضمان الاجتماعي فيهما، إلى «التحرش» بالصحف اليومية الأخرى التي تتمتع بهامش يكبر ويتضاءل حول تغطية أنشطة الحراك الشعبي، ونقد السياسات الحكومية، وكشف «تهافت الخطاب الحكومي».
الإعلام الذي تسيطر عليه، سيطرة شبه تامة الدوائر الأمنية، تحوّل في أغلبه إلى أبواق، ووسائل للتزوير، وتشويه الحقيقة، واغتيال الوقائع. هذا الإعلام المدجج بـ «كتّاب التدخل السريع» هو أحد الأدوات الضاربة لتلك الأجهزة الأمنية، ولا غرابة في ذلك ففي دائرة المخابرات العامة هناك قسم خاص للإعلام المحلي، هدفه «ضبط الإيقاع» حتى لو كان ذلك على حساب أخلاقيات المهنة، ومعاييرها ونواميسها.
إن إدارة الإعلام تتم وفق منطق الدول الشمولية، حيث ثمة صوت واحد، ورواية واحدة، وموقف واحد. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه إلى إملاء ماهية المانشيتات التي ستفترش الأعمدة الثمانية على الصفحة الأولى.
وفي غضون هذه المعضلة التي يعرفها ويعاني منها العاملون في الإعلام، تتناسل معلومات عن ضيق العقل الأمني بما تكتبه إحدى الصحف اليومية التي تغرد خارج سرب الأبواق. إنها في نظر قائد الأوركسترا «نشاز» ويجب أن تنضم للجوقة، حتى يكون اللحن «الوطني» موحدا ومتناغما.
وقد كنت ألقيتُ، الشتاء الماضي، محاضرة في مؤسسة عبد الحميد شومان، دعوت فيها إلى تحرير الصحافة من هيمنة الحكومة، عبر بيع حصصها في «الضمان»، بالإضافة إلى الكفّ عن ممارسة عقلية الوصاية والهيمنة، والإيعاز تحت طائلة الترغيب والترهيب. وقلت أيضا إن «إصلاح الإعلام مقدّم على إصلاح النظام»، فالإعلام الحر المستقل المهني الموضوعي رافعة أساسية من روافع الإصلاح، وحاضنة له، وموجه أساسي ينير خريطة الطريق.
يجب على الدولة، لو أن عقلها الاستراتيجي ليس في إجازة، أن تعمل على خلق هذا الإعلام النقدي الذي يراقب ويحاسب، ويمكّن أجهزة الدولة كافة من التنبه إلى الأخطاء. ويمكن لو أريد ذلك أن تكون الصحافة، حقيقة، سلطة رابعة، سقفها السماء فعلا لا شعارا!
خلال الأيام التي رافقت «هبة تشرين» سقط الإعلام الرسمي والتابع له بمختلف أشكاله، في امتحان المصداقية سقوطا أخلاقيا ذريعا. كان إعلاما ينضح بالكذب والتزييف، ويحضّ على الكراهية، وكانت «التوجيهات» تقضي بالهجوم الضاري على الحراك، وشيطنته وتحميله وزر التخريب والعبث ومهاجمة رجال الأمن، وقطع الطرق، ما خلق انطباعا شعبيا، ضئيل الأهمية، بأن هؤلاء الحراكيين يسعون إلى خراب البلد، وجعلها «مثل سورية»!
ولئن كان للباطل جولة، فإن للحق دولة، وفي دولة الحق والحقيقة، لا يمكن لأي جهاز، أو قلم مأجور، أو كاتب حسب الطلب أن يغطي الشمس بغربال..
إنها الشمس أيها الأشقياء!!