ليس هناك اي سبب من الاسباب المألوفة كان يمكن ان يجيء بالدكتورعبدالله النسور الى الرئاسة ، وليس هناك اي ظرف من الظروف الاعتيادية كان يمكن ان يستدعي حضوره ، وليس هناك اي معيار من معايير ما قبل حضوره كان يمكن ان يسمح بحضوره، لكن سببا فوق تلك الاسباب ، وظرفا غير تلك الظروف ، وشرطا غير باقي الشروط ، هو الذي ادى للبحث عنه او عن خصائصه المختلفة عن سربه .
انها الحاجة، الحاجة الى نوع اخر من الرؤساء وليس الحاجة لاسم اخر من الاسماء ، حاجة ظلت تلح حتى ادت للبحث عنه او عن رئيس بخصائصه مهما كان اسم هذا الرئيس ، فالحاجة هي التي استدعته بكل ارائه ومواقفه وخبراته ومعارفه ، وتلك هي ميزاته التي جعلته اختيارا مختلفا عن باقي الاختيارات ، ورئيسا من صنف اخر، ووجها غريبا في الصف، فمن شدة وضوحه كانت غرابته ، ومن عنوانه جاء اختلافه، فهو شخص حقيقي له عنوان وله محتوى ولديه تفاصيل.
كان الزمن المنقضي مضادا له وطاردا لسلعته ،بل كان الطلب شديدا على الاتجاه المعاكس ، فقد كانت الخدعة الكبرى قد انطلت على القارات الخمس ، وفي ذلك الليل المقرر كان المطلوب اشخاصا بلا وجوه وشبابا بلا خبرة ورجالا من النوع المسائي ،فقد كنا مستعجلين ، فالتاريخ انتهى والجغرافيا الغيت ، هكذا قيل ، والعصر عصر الفضاءات والاعلان والدعاية والادعاء والصعق بالصور، فجرى ما جرى، لكن الليل انتهى وبقيت الجغرافيا ولم ينته التاريخ!
ولانها كانت خدعة لم يف المستقبل بأي وعد من وعود الليل ، ولم يهطل علينا من الفضاءات غير اخبار المذيعات ومناظرالجثث، وصورة الفرد المتوحش المرتد الى غابته التي سميت قرية ضمن السياق ، وبينما كان الوحش ينهزم، ويحصي الانسان خسائره ، كانت الاشياء تعيد تنظيم صفوفها وفق قوانين الصبح او احوال مابعد الكوارث..
لا خيال في المستقبل ولا خرافة في الماضي ولا نهاية للتاريخ ،تلك هي الحقيقة التي باتت الان اشد وضوحا ، فلا مجال بعد الان للخرافات والطلاسم ، ولا مجال بعد الان الا للنهج العلمي الذي لايسلم نفسه للاوهام ولا يخلط العام بالخاص ولا يخضع الا لقوانين الحقيقة والمنطق ، ولان الامر اصبح كذلك ، فليس لدينا في الصف الاول من يمثل هذا النهج ويحتكم لهذا المنطق احسن من هذا الرجل السابح في البحر الرسمي منذ نصف قرن دون ان يغرق.
تكيف عبدالله النسور كثيرا مع حالات المد والجزر ، لكنه ظل قادرا ان يحتفظ ببديهياته واساسياته واختلافاته ، فاستعصى على حركة الامواج وصمد، تفاهم وقاوم وهادن ، لكنه لم يتنازل عن المربع الاساسي فظل قادرا على الاشتباك ، وفي اخطر المنعطفات كان لديه ما يكفي من الايمان ليعتصم بمحتواه ومضمونه فلم يتسيل ولم ينكسر.
لكل ذلك وبسببه اشتدت الحاجة اليه ، ولكل ذلك جاء الى الرئاسة كمطلوب لا طالب ،لم يكن بطلا الى ذلك الحد ، ولم يكن استثنائيا فوق كل حد ، لكنه لم يفرط في موسم التفريط ،ولم يحل نفسه لارتداء الزي الموحد ، كان بين الخاصة لكنه كان للعموم اقرب ، لا تحبه بعض النخب لانه ليس من النوع الذي تضحك عليه اشباه النخب! يجيء عبد الله النسور الى الحكم حاملا بيمينه كتابه الكبير القابل كله للقراءة والفهم ،فلا فراغات بين السطور ولا صفحات خالية من المضمون ولا حشو، بل تاريخ مملوء بالمعاني والافعال.
عربيا هو صريح في عروبته ، واردنيا هو من زمن الرسالة وفي قلبه جرح غائر اسمه فلسطين، معارضا تثق به «ان كنت سليم القلب» اكثر من الموالين ، ومواليا هو تصدقه اكثر من المعارضين ، وما كان يمكن ان يكون كذلك لولا انه انسان حقيقي من بلاد لم ينته تاريخها ولن ينتهي!