لحظات بدا فيها الزمن متوقفاً، صمت مطبقٌ خيّم على صالة العرض،لم يقطعه سوى عبرات مكتومة من بعض الحاضرين. وجوه واجمة، وعيون متسمرة على الشاشة الكبيرة، لا شي يُسمع سوى صدى صوت كان يتوسل من يُنقذه، صوت هند رجب، ذلك الصوت الذي تجاوز حدود الشاشة، ليُجمّد الزمن. دقائق من الصمت لكن في داخل كل من في الصالة، كانت هناك عاصفة من المشاعر المؤلمة، و سؤال موجع يبدأ بلماذا؟.
لم يكن هذا الصمت مجرد انعكاس لمشاعر عابرة، بل كان إقراراً جماعياً بالعجز أمام صوت طفلة صارعت الموت وحيدة حتى لحظاتها الأخيرة.
عندما قررت أن أحضر العرض الخاص لفيلم "صوت هند رجب"، كنت مدركة تماماً، أنه لن يكون مجرد عمل سينمائي وثائقي، يسرد قصة ضحية من ضحايا حرب الإبادة فقط، بل وثيقة إتهام، تختزل مأساة غزة في قصة طفلة. ولقد نجح الفيلم في تحويل الشاشة إلى قاعة محكمة رمزية صامتة.
تكمن قوة الفيلم في بساطته المروعة، المخرجة كوثر بن هنية كما ذكرت في نهاية العرض، لم تكن بحاجة إلى مؤثرات ضخمة أو صور مرئية مباشرة لإيصال رسالة فيلمها، لم تحاول حتى إعادة تمثيل المشهد ذاته. بل عوضاً عن ذلك، اختارت أن تجعل المشاهد رهينة لتجربة سمعية حقيقية و واقعية، حيث يتحول صوت الطفلة هند رجب، المسجل عبر مكالمة إستغاثة، إلى خيط رفيع لكنه صلب يربط المتفرج بقلب الحدث، و يجعله يعيش الأحداث ذاتها معها. صوت هند الذي تردد فيه الخوف والرجاء والتوسل، تجاوز كونه دليلاً على الجريمة، ليصبح صدى لكل الأصوات التي فُقدت في هذه الإبادة الجماعية.
ما يرفع الفيلم من مجرد عمل فني إلى توثيق حقيقي هو الإطار الإخراجي الذي اختارته المخرجة كوثر بن هنية. لقد اتخذت قراراً موفقاً بوضع التسجيلات الصوتية الحقيقية كما هي في الفيلم. والأهم من ذلك، أنها لم تركز فقط على صوت الضحية، بل كانت نقطة الإرتكاز الأساسية لجميع مشاهد الفيلم هو داخل مقر الهلال الأحمر الفلسطيني. ليكشف لنا الفيلم عن العبء النفسي الهائل الذي يحمله متلقو الاتصالات والمسعفون الفلسطينيون، ويُظهر لنا الجانب الآخر من المأساة، المعاناة الإنسانية و النفسية لأولئك الذين يكافحون لإنقاذ الأرواح، و الآثار النفسية لفقدان زملاء لهم خلال أداء عملهم، صوّر الفيلم ببراعة تلك اللحظات الفاصلة في حياة طفلة، حيث يصبح تنسيق مرور سيارة إسعاف بين المناطق التي يسيطر عليها جيش الاحتلال، مهمة صعبة و أحياناً مستحيلة، ومحاولة انقاذ طفلة عالقة في سيارة مع جثث أفراد من أسرتها، يحتاج ساعات من التنسيق الأمني و البيروقراطية المتعمدة من قبل الحكومة الإسرائيلية، ويضع المشاهد وجهاً لوجه أمام الحقيقة البشعة للواقع الذي يعيشه الفلسطيني تحت الإحتلال.
ربما صوت هند كان المحور الأساسي للفيلم، إلا أن أكثر اللحظات التي فرضت على المشاهد بعداً إنسانياً عميقاً، هي تلك المتعلقة بمتلقي الاتصالات في الهلال الأحمر الفلسطيني، أولئك الذين ردّوا على إتصال هند، وبقوا معها لساعات وهم يحاولون طمأنتها وتهدئتها وتوجيهها وسط الخوف وأصوات الرصاص. هؤلاء الأشخاص لم يكونوا فقط مجرد موظفين يؤدون واجباً، وبالرغم من محاولاتهم للثبات وإظهار القوة، إلا أن الفيلم يكشف لنا عن الثقل النفسي الهائل الذي يحمله هؤلاء العاملون في غرف الاتصالات، وعن مسئولية الإنقاذ و النجاة التي لا يملكون أدوات إتمامها دائماً بسبب الإحتلال، وصعوبة التوفيق بين المهنية والإنسانية في لحظة واحدة. هؤلاء لم يفقدوا طفلة فحسب، بل فقدوا جزءاً من القدرة على حماية أنفسهم من الألم، وفي حوارات صحفية تمت معهم، كانوا يصفون كيف أن صوت هند لازال يُرافقهم إلى اليوم، وكيف تحولت مكالمتها الأخيرة إلى ندبة لا يمكن رؤيتها، لكنها حاضرة في كل مرة يشاهدون فيها صورتها.
يتطرق الفيلم أيضاً إلى الصعوبات التي يواجهها فريق الهلال الأحمر الفلسطيني من أجل عمليات التنسيق الأمني، وعدم إلتزام الإحتلال بالقوانين الدولية، ليتعمد إستهداف سيارات الإسعاف و الكوادر الطبية الفلسطينية. مسؤوليات متضاعفة وأرواح مرهقة وأعصاب مشدودة. وفي لحظات كثيرة، يبدو متلقو الاتصالات أشبه بجنود غير مسلحين، جنود يقاتلون بالإنسانية، بالصوت، وبالرغبة في أن يبقي الحديث مع روح إنسان مستمر على الطرف الآخر من الخط. بهذه الصورة، يُضيف الفيلم صورة إنسانية مهمة، ليس فقط صوت الطفلة هو ما يمزق القلب، بل أيضاً الأصوات التي حاولت إنقاذها، أصوات أشخاص يجدون أنفسهم كل يوم أمام معركة خاسرة مع الوقت، ومع الألم، ومع الأرواح بسبب الإحتلال.
الفيلم لا يعرض فقط قصة من آلاف القصص التي حدثت في حرب غزة، بل يعرض أيضاً وقائع ثابتة، تُفيد بأن الجيش كان على علم تام بوجود الطفلة في السيارة، ورغم التنسيق المُسبق، قُتلت الطفلة هند و قُصفت سيارة الإسعاف عمداً رغم تصريح المرور، و هي على بعد خطوات من السيارة التي تواجدت فيها الطفلة.
سيبقى فيلم "صوت هند رجب".. مرآة تعكس خذلان العالم لأطفال غزة، وسيظل صوتها يتردد في ضميرنا الإنساني كتوثيق حقيقي لجريمة متعمدة، و إنتهاك لأبسط مبادئ القانون الدولي الإنساني خلال الحروب. صوت هند يضعنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة البشعة لهذا العالم،
ويترك المجتمع الدولي الذي فقد بوصلته الأخلاقية أمام سؤال موجع: ما جدوى القانون الدولي إذا لم يستطع أن يحمي طفلة تُركت تواجه مصيرها وحيدة أمام دبابة؟
