استيقظت هذا الصباح وبين زحمة الأخبار المتداولة على
"الواتس آب”
لفت انتباهي تصريح للتربوي بلال السكارنة حول المشاجرة الأخيرة في الجامعة الأردنية وصف فيها الجامعة بأنها تحوّلت إلى تكتلات عشائرية وأن الطلاب يجتمعون خلال دقائق عبر مجموعات "الواتس آب” فيتجمّعون "غايبين فيله” — على حد تعبيره — عند أول شرارة مشكلة.
لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير.
فالـ”غائب الفيله”
الحقيقي ليس الطالب بل الأسرة التي غابت عن دورها التربوي وتركت أبناءها يتربّون على مفاهيم مغلوطة من القوة والعصبية والانتصار الأعمى.
الغائب هو الوعي الأسري والتربوي الذي سمح لابن اليوم أن يرى في المشاجرة بطولة وفي الدم وسيلة لإثبات الذات وفي التجمع القبلي درعًا يبرّر الفوضى.
إن الجامعة ليست ساحة قتال بل ساحة فكر.
ليست حلبة لتصفية الحسابات بل مختبرٌ للعلم والتنوع والتعارف.
الجامعة هي المكان الذي يُفترض أن تتعرّف فيه على أبناء المحافظات الأخرى لا لتقف ضدّهم بل لتتعلم منهم.
أنا فتاة من جنوب الأردن وكان حلمي منذ الصغر أن أدرس في الجامعة الأردنية أمّ الجامعات التي خَرجت أجيالًا من النخبة والعلماء والمبدعين.
واليوم يؤلمني أن أرى هذا الصرح يُشيطَن إعلاميًا حتى إنّ بعض الأهالي أصبحوا يخافون من إرسال بناتهم إليه وكأنها صارت رمزًا للخطر لا للعلم.
هذه ليست صورة الجامعة الأردنية التي نعرفها بل صورة الخلل المجتمعي الذي نحمله نحن من بيوتنا إلى مقاعد الدراسة.
ليس هناك حرج في أن يعتز الإنسان بعائلته أو عشيرته — فالعشيرة قيمة اجتماعية نبيلة حين تكون حاضنة أخلاق لا وقود نزاع — لكن الخلل يبدأ عندما يتحول الانتماء إلى سلاحٍ ضدّ الآخرين وعندما تصبح "القروبات” الإلكترونية أداة تعبئة لا وسيلة تواصل.
أما الغائب الآخر فهو التشريع الصارم داخل الجامعات.
نحن بحاجة إلى نظام يفرض هيبته دون تردد فالعقوبة ليست انتقامًا بل ردعٌ يحمي حياة الآخرين.
يجب أن يشعر الطالب أن أي تجاوز سيكلفه مستقبله الأكاديمي كاملاً وليس جزءًا تمامًا كما يخاف السائق من فقدان رخصته أو الموظف من خسارة عمله.
القوانين ليست لتجميل اللوائح بل لتربية السلوك.
الحل ليس بيد الجامعة وحدها
الجامعة ليست مدرسة لتربية السلوك من الصفر بل مؤسسة لتطوير الفكر والتربية تبدأ من البيت والمدرسة.
حين يغيب الحوار في الأسرة ويُربّى الطفل على أن "الرجولة” تعني السيطرة وأن "الكرامة” تُستعاد باليد لا بالعقل فسنجد أنفسنا بعد سنوات أمام طلاب يحملون كتبًا في أيديهم وأفكارًا قبلية في رؤوسهم.
إن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب ثلاثة مسارات متوازية:
المسار أسري:
إعادة تأهيل مفهوم الرجولة والانتماء داخل البيوت وإشراك الأهل في توعية أبنائهم بخطورة السلوك العدواني داخل الجامعة.
المسار تربوي وتعليمي:
تضمين المناهج الدراسية وحدات حقيقية عن إدارة الغضب وثقافة الحوار واحترام القانون لا على شكل دروس نظرية بل تطبيقات عملية في الحرم الجامعي.
المسار تشريعي جامعي:
فرض قوانين رادعة واضحة، تُنفّذ بعدالة وشفافية لتكون عبرة لكل من يعتقد أن الجامعة مكان لتفريغ العُقد والعصبيات.
في النهاية يجب أن نتوقف عن ترديد عبارة "الجامعة الأردنية أصبحت خطيرة” لأن الخطر الحقيقي ليس في الجامعة بل في العقول التي تدخلها محمّلة بالعدوانية وتخرج منها دون أن تتعلم معنى الإنسانية.
فلنُعد الاعتبار إلى معنى أن تكون "جامعيًا” — لا بمجرد حمل شهادة بل بامتلاك سلوكٍ راقٍ وفكرٍ مستنير ووعيٍ يُنقذنا من أنفسنا قبل أن ينقذ غيرنا.


