كرّم "منتدى أصيلة” ذكرى مؤسّسه الوزير الأسبق محمد بن عيسى. توافد أصدقاء المنتدى من الجهات الأربع في العالم لتقديم شهادات بمسيرة الراحل. بدت المدينة، الساهرة على ضفاف المحيط الأطلسيّ وغير البعيدة عن مدينة طنجة الشهيرة، أقلّ تألّقاً بغياب ابنها الرائع. لكنّها بدت قويّة فخورة بما حقّقه الراحل طوال حياته منذ أن تقلّد منصب العمدة وأتى بكبار شخصيّات العالم في السياسة والفنّ والثقافة يجولون في أزقّتها العتيقة.
فيما المدينة كعادة مواسمها السنويّة تناقش داخل منتدياتها شؤون العالم القريب والبعيد، كان المغرب يشهد "موسماً” آخر من الجدل في شوارع المدن والأنحاء في مناطق مختلفة من المملكة. ولئن تنتمِ مواسم أصيلة إلى جيل متوسّط ومتقدّم في السنّ ينظر إلى العالم من عين زمانه، فإنّ تظاهرات المغرب هذه الأيّام تنتمي إلى جيل آخر يتحدّث لغة، ويستخدم أدوات، ويقترح مفاهيم حديثة تنتمي إلى هذا الزمن العصيّ على الاستشراف والإدراك.
عام 2011 التحق المغرب بموسم "الربيع العربي”. تسرّبت العدوى من تونس ثمّ مصر قبل أن تجتاح ليبيا واليمن وسوريا وبلداناً أخرى. أدرك العاهل المغربي الملك محمّد السادس جسارة اللحظة التاريخية، وقفز خطوات أمام حراك المغاربة، مقترحاً إصلاحات دستوريّة بدت ثوريّة متقدّمة. باتت الحكومة منتخَبة من الشعب، تختارها أغلبيّات منتخَبة، يُحاسبها برلمان منتخَب، ويسهر ملك على مواكبة أدائها، والحرص على حسن سير عملها لِما فيه مصلحة المغرب وخير شعبها.
يقف جيل آخر وراء الحراك هذه الأيّام. يطالب الشباب بخدمات في العيش والصحّة والتعليم تتّسق مع ما حقّقته البلاد من تقدّم ونموّ اقتصادي وثورة في بنيتها التحتيّة. تكاد تلك التحرّكات الحاشدة تكفر بما تُخرجه صناديق الاقتراع من صفقات وائتلافات تنتج حكومات يعتبرونها عاجزة عن فهم شروط العصر، والالتحاق بركب معاييره الجديدة، واستباق تطلّعات جيل جديد لا علاقة له بمتطلّبات جيل "الربيع” ونتائجه.
شهد المغرب احتجاجات سلميّة عدّة مرّات بسبب المطالب الاقتصادية والاجتماعية، لكنّ اضطرابات هذا الأسبوع هي الأعنف
اضطرابات هي الأعنف
شهد المغرب احتجاجات سلميّة عدّة مرّات بسبب المطالب الاقتصادية والاجتماعية، لكنّ اضطرابات هذا الأسبوع هي الأعنف منذ تظاهرات 2016-2017 في منطقة الريف الشمالية. نظّمت مجموعة شبابيّة مجهولة تحمل اسم "جيل زد 212” احتجاجات على الإنترنت مستخدمةً منصّات من بينها "تيك توك” و”إنستغرام” وتطبيق الألعاب ديسكورد. "جيل زد” هو ذلك الذي وُلد مع الإنترنت والإعلام الاجتماعيّ الحديث، وأمّا 212 فهو الرمز الهاتفيّ الدوليّ للمغرب. انتشرت التجمّعات واصطدمت مع الشرطة في مدن الجنوب كما الشرق وتلك المجاورة للعاصمة الرباط.
لا شعارات سياسيّة للتظاهرات. لا أحد يطالب بسقوط النظام على منوال ذلك الشعار الذي ساد موسم "الربيع”. هتف المتظاهرون بشعارات من بينها "الشعب يريد إنهاء الفساد”، و”الصحّة أوّلاً ما بغيناش كأس العالم” في غمز من قناة تكاليف استعدادات المغرب لتنظيم الألعاب عام 2030. كلّ الحملات المنظّمة من خلال المنصّات الاجتماعية وهتافات المتظاهرين تطال حكومة عزيز أخنوش ووزرائه ويطالبونها بالاستقالة.
تبلغ نسبة البطالة في المغرب 12.8 في المئة، وتصل نسبتها بين الشبّان إلى 35.8 في المئة و19 في المئة بين الخرّيجين، وفقاً للمندوبيّة السامية للتخطيط. يكفي تأمّل هذه الأرقام لفهم جانب من المعضلة. يلفت المختصّون المغاربة إلى أنّ رجال الأعمال تبوّؤا المناصب الوزاريّة وأحالوا الملفّات الاجتماعية إلى أرقام تقيس الخسائر والأرباح ولا تأخذ بعين الاعتبار البعد الإنساني والاجتماعي للتحوّلات.
يقول صحافيّ مغربيّ إنّ رجال السياسة يشكّلون عادةً "واقي صدمات” يحمي الحكومة والدولة من ردّ فعل الأهالي وحراك المجتمعات الغاضبة، فيما التكنوقراط، الوزراء الحاليون، يجهلون حرفة السياسة وصنعة التعاطي مع مشاكل الناس. يذهب زميل آخر إلى التنبيه إلى أنّ أصل الحراك "سوء تواصل” ارتكبه وزراء بحقّ محتجّين، فكبر ردّ الفعل غضباً وانتقاماً. بدا أنّ المطلوب التضحية بحكومة أخنوش والذهاب إلى بديل يكون على مستوى اللحظة الحرجة. لكنّ كثيراً من الآراء تحذّر من المتصيّدين والمتسلّقين والمخرّبين وأصحاب الأجندات الخبيثة في الداخل والخارج.
كان المغرب يشهد "موسماً” آخر من الجدل في شوارع المدن والأنحاء في مناطق مختلفة من المملكة
إنْ يسِل لعاب أحزاب المعارضة لانتهاز الفرصة وركوب الموجة والتطوّع للعب الدور المقبل، فإنّ لشباب الحراك مزاجاً آخر يشبه شعار حراك لبنان الشهير "كلّن يعني كلّن”.
ما تسمعه من شباب "جيل زد” هو كفر بكلّ الأحزاب التي خبروها جميعاً منذ إصلاحات عام 2011. جرّبوا الأحزاب الإسلامية والليبرالية وقبلها اليسارية ويرفضون نغمة إبدال الخلف بالسلف. لكنّ ذلك الجيل يدهشك بالبوصلة التي يتحرّك وفقها: يتمسّك بسلميّة الحراك على الرغم من أنّ المواجهات شابها عنف وأسقطت قتلى وجرحى وسبّبت مئات الاعتقالات. ويؤكّد أنّها ليست ثورة ضدّ الدولة وليست معركة ضدّ النظام السياسي. ويدهشك ما يصدر عن متحدّثين من "جيل زد 212” ممّا يشبه مناشدات لتدخّل الملك بصفته الملاذ الدائم حين تعجز الحكومة وأحزابها وهياكلها.
تراقب المؤسّسة الملكيّة بحكمة أحوال الحراك. كان الملك محمّد السادس في خطبه وإطلالاته أكثر المنتقدين لحال عدم استفادة شرائح اجتماعية ممّا حقّقته البلاد من تطوّر وتقدّم في التنمية، ومن قفزات على مستوى الموقع الجيوستراتيجيّ والعلاقات مع كبرى عواصم العالم. نقلت مضامين بعض سطوره أسئلة بشأن نجاعة الحكومات ولزوم الوزراء إذا كان على الملك التدخّل شخصيّاً لحلّ أزمات البلاد.
في عُرف العاهل المغربيّ يوجد الالتزام الكامل بالإصلاحات الدستوريّة وما يختاره المقترعون. لكنّ في هدوء الملك وتأمّله، وهو "رئيس الدولة وضامن وحدتها واستمرارها”، ما يشي أنّ إرادة ملكيّة ستتدخّل من جديد لتستجيب لمزاج المغاربة، لا سيما جيل حاضر البلاد ومستقبلها.
لم تكن منتديات أصيلة، التي قادها بن عيسى ويقودها هذه الأيّام بجدارة خليفته حاتم البطيوي، بعيدة عمّا يدور داخل المجتمعات العربيّة، لا سيما مجتمع المغرب. ولئن يتعقّد فهم شأن مغربيّ داهمَ المملكة خلال الأيّام الأخيرة، فإنّ "قوم أصيلة” ونخبها تطوّعوا في تفسير الحدث، والبحث مع ضيوف المنتدى في احتمالات مستقبل المغرب داخل هذا العالم المتحول.
