هل يمكن لترامب أن يدير "اليوم التالي” لحرب غزّة بجدّية، فيما تتّسم سياساته بالتناقضات والارتجال، وتتحكّم بها نزواته وحساباته الداخليّة؟
في عهد ترامب الذي لم يُكمل سنته الأولى بعد، تميّزت السياسة الأميركية بافتقارٍ واضحٍ إلى الجدّيّة والصدقيّة والفاعليّة. وذلك بسبب ارتجالات الرئيس ترامب المتسرّعة وتناقضاته، ولقد تبلور إجماعٌ شاملٌ على أنّه الرئيس الذي لا تُعتمد أقواله ولا يُبنى عليها ولو ليومٍ واحد.
بشأن الحرب على غزّة ومنذ بداية حملته الانتخابية، ووصوله إلى البيت الأبيض، أثبت أنّه أكثر المعنيّين بها، كلاماً واستعراضاً، وأقلّهم إنتاجاً.
في هذا السياق، جاء الاجتماع الموسّع الذي أجراه في البيت الأبيض، للبحث في اليوم التالي، الذي يلي توقّف الحرب.
في عهد ترامب الذي لم يُكمل سنته الأولى بعد، تميّزت السياسة الأميركية بافتقارٍ واضحٍ إلى الجدّيّة والصدقيّة والفاعليّة
قلّة الجدّيّة
كانت تقديراته المرتجلة حدّدت أسبوعين إلى ثلاثة، بينما تقديرات موفده ستيف ويتكوف وصلت إلى ثلاثة أشهر أو أربعة، ثمّ ما لبث الرئيس أن تراجع عن الأسابيع ليتحدّث عن صراعٍ أبديّ لا نهاية له، بما يجعل من اليوم التالي أمراً يكاد يكون وهميّاً.
ربّما ما يجسّد قلّة الجدّية في اجتماع البيت الأبيض الموسّع هو مشاركة توني بلير، الرجل الذي ما إن غادر رئاسة الوزراء في بريطانيا حتّى انصرف إلى البحث عن وظيفةٍ في الشرق الأوسط، وقد حصل عليها بالفعل حين أصبح مبعوثاً دوليّاً رفيعاً اقترن اسمه بالفشل واللاجدوى، حتّى ذوى وغاب مع الأيّام، وها هو يجد وظيفةً جديدةً عنوانها تحضيرات اليوم التالي للحرب على غزّة، والمفارقة أنّه لا يعرف متى يأتي هذا اليوم.
ترامب ومبعوثوه ومساعدوه (الإمّعات) الذين يعملون وأيديهم على قلوبهم خشية غضبه وطردهم من وظائفهم بجرّة قلم. وبعد انقطاعٍ عن الشأن الغزّيّ لعدّة أسابيع، وغياب ويتكوف عن منتدى الوساطة، وبعد الفشل المدوّي لرهاناته على وقف الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، من خلال اللقاء الذي تمّ أخيراً مع بوتين، عاد للّعب من جديد على ملعب غزّة، فكان أن اختار اليوم التالي عنواناً، واستضافة اجتماعٍ موسّعٍ ليثبت أنّ غزّة عادت إلى جدول أعماله، وأنّه يتطلّع إلى إدارتها بعد الحرب، ليحوّلها إلى ريفييرا بعد إخلائها من أهلها، وهو بهذا خاطب الداخل الأميركي والإسرائيلي.
نتنياهو أكثر اللاعبين درايةً بمزاج ترامب وتقلّباته، والأكثر استغلالاً لهذا المزاج في خدمة أجنداته، لذا سارع إلى إرضاء نزوات حليفه، فأعلن أنّه يؤيّد إدارةً أميركيّةً لغزّة، دون تحديدٍ لطبيعة عمل هذه الإدارة، وهل تكون قبل الريفييرا أم بعدها؟!
ربّما ما يجسّد قلّة الجدّية في اجتماع البيت الأبيض الموسّع هو مشاركة توني بلير، الرجل الذي ما إن غادر رئاسة الوزراء في بريطانيا حتّى انصرف إلى البحث عن وظيفةٍ في الشرق الأوسط
تظاهرة دعائيّة
في عهد ترامب تحوّل البيت الأبيض الذي أرعب العالم عقوداً إلى مكانٍ يتناقص وزنه في القضايا الدولية، حتّى إنّ رئيسه يفتّش أو يختلق وقائع لإثبات وجوده وقدراته، مع أنّ الراصد لعمله منذ قدومه إلى سدّة البيت الأبيض حتّى يومنا هذا، لا يجد غير العجز والفشل والمراوحة في القضايا الساخنة، دون إنجاز أيّ تقدّم جدّي نحو حلّ أيٍّ منها، وأوضح شاهدٍ على واقع الحال بعد أوكرانيا هي غزّة وأيّامها الراهنة ويومها التالي.
اجتماع البيت الأبيض ومشاركة توني بلير وجاريد كوشنير فيه مع وجود وزراء نتنياهو على مقربةٍ منه أو في داخله، كلّ ذلك يؤكّد أنّ الاجتماع لا يزيد على كونه تظاهرةً دعائيّةً لا مردود لها على أرض الواقع سوى تغطية الحرب والهروب من استحقاق وقفها.
يعرف البيت الأبيض ومستشاروه وكبار موظّفيه كيف تُعالَج حرب غزّة وكيف تتوقّف. يعرفون أنّ أمراً صريحاً يصدرونه لنتنياهو ينهي اللعبة في ساعات، ويعرفون أيضاً أنّ اليوم التالي على حرب غزّة ليس إدارة مشروعٍ استثماريٍّ خياليٍّ عنوانه الريفييرا التي تقام على دمارٍ شاملٍ ورمالٍ تغطّيها الجثث والدماء، لكنّهم لا يتصرّفون وفق ما يعرفون وإنّما وفق ما يمليه اللوبي الصهيوني الفعّال الذي يمتدّ من قلب تل أبيب ويصل إلى الكونغرس والبيت الأبيض.






