لم يكن الارتفاع على أسعار القهوة مفاجئا تماما، إذ يعود إلى عوامل اجتمعت معا لتؤثر على سوق القهوة على نحو غير مسبوق. فالتغيرات المناخية القاسية التي ضربت أكبر الدول المنتجة للبن، كالبرازيل وفيتنام، أدت لانخفاض كبير بالمحاصيل، إذ تسببت موجات الجفاف والحرارة المرتفعة في منطقة ميناس جيرايس البرازيلية، المسؤولة عن 30 % من إنتاج البن في البلاد، بانخفاض الإنتاج بحدة.
وفي فيتنام، واجه المزارعون تحديات إضافية نتيجة الجفاف والآفات الزراعية، ما تسبب بتراجع إنتاج البن 20 %.
وإلى جانب العوامل المناخية، ساهمت مشكلات سلاسل التوريد بتفاقم الأزمة. كما ارتفعت تكاليف الشحن بسبب التأخيرات اللوجستية في الموانئ، وارتفاع أسعار الوقود، ما زاد من الضغوط على الأسواق.
في الولايات المتحدة، ارتفعت أسعار القهوة 6.6 %، بينما شهدت الأسواق الأوروبية زيادة بـ3.75 %، ما أثّر على نحو مباشر على المستهلكين الذين بدأوا يبحثون عن بدائل أو يحدّون من استهلاكهم اليومي للقهوة.
تداعيات الأزمة على المزارعين والمستهلكين
برغم أن ارتفاع أسعار القهوة، قد يبدو مفيدا للمنتجين، فإن صغار المزارعين، الذين ينتجون 80 % من إنتاج البن العالمي، لم يجنوا الفوائد المتوقعة. فالتكاليف المرتفعة للإنتاج، كالأسمدة والعمالة والوقود، استهلكت جزءا كبيرا من الأرباح، ما جعلهم في وضع اقتصادي صعب.
كما أن التقلبات الكبيرة في الأسعار جعلت من الصعب على المزارعين التخطيط والاستثمار في زراعاتهم المستقبلية، ما قد يؤدي لمزيد من الانخفاض في الإنتاج على المدى البعيد.
من جهة أخرى، وجد المستهلكون أنفسهم أمام خيارات محدودة، اذ أصبح شرب القهوة مكلفا أكثر من أي وقت مضى. ومع استمرار ارتفاع الأسعار، بدأ بعضهم بالبحث عن بدائل أخرى، توفر لهم الفوائد نفسها، التي تقدمها القهوة، دون الحاجة إلى دفع مبالغ كبيرة.
كيف يواجه المستهلكون ارتفاع الأسعار؟
في ظل استمرار ارتفاع أسعار القهوة، يلجأ مستهلكون لخيارات أخرى تتيح لهم الحصول على الطاقة والتركيز دون الاعتماد على القهوة. وقد أصبح الشاي الأخضر من البدائل الشائعة، إذ يحتوي على نسبة معتدلة من الكافيين، إلى جانب فوائده الصحية العديدة. كذلك، بدأ بعضهم بالاعتماد على الكاكاو كمشروب يومي، نظرا لغناه بمضادات الأكسدة، بالإضافة إلى كونه خيارا طبيعيا لتعزيز النشاط والتركيز.
وهناك أيضا توجه متزايد لاستخدام الزنجبيل والمكسرات والشوفان كمصادر طبيعية للطاقة، بخاصة بين من يسعون لتقليل اعتمادهم على المشروبات التي تحتوي على الكافيين. وفي الوقت نفسه، تعمل بعض الشركات على تطوير قهوة اصطناعية مصنوعة من مواد طبيعية، كبديل مستدام وأقل تكلفة، يمكن أن يكون حلا محتملا لمشكلة نقص الإنتاج وارتفاع الأسعار.
ومع ذلك، ما تزال القهوة تحتفظ بمكانتها كعنصر أساسي في روتين الملايين حول العالم، مما يجعل من الصعب على المستهلكين التخلي عنها تماما، حتى لو اضطروا إلى تقليل استهلاكهم أو البحث عن خيارات أكثر اقتصادا.
ماذا يقول الخبراء؟
يرى السفير السابق للأمم المتحدة للأغذية والخبير الدولي في الأمن الغذائي، فاضل الزعبي، أن أزمة القهوة تعكس نموذجا أوسع لتأثيرات التغير المناخي على الأمن الغذائي العالمي. ويقول: "ما نراه اليوم في سوق القهوة، تحذير مبكر لما يمكن أن يحدث في محاصيل أساسية أخرى. وعلى الحكومات دعم المزارعين بتقنيات أكثر مقاومة للمناخ، وإلا سنشهد مزيدا من التقلبات الحادة في الأسعار، والتي لن تؤثر فقط على المزارعين، بل ستؤدي لأزمات تضخم غذائي عالمية".
وأشار الزعبي إلى أن الحلول تكمن بتبني إستراتيجيات التكيف مع التغير المناخي، كتطوير الزراعة المستدامة وتحسين سلاسل التوريد، بحيث سيكون لهذه التدابير دور حاسم في التخفيف من حدة الأزمة مستقبلا.
الاستثمارات العربية في القهوة.. هل هي الحل؟
مع تصاعد أزمة القهوة عالميا، بدأت بعض الدول العربية في البحث عن حلول لتعزيز إنتاجها المحلي من البن، وتقليل الاعتماد على الواردات. المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، أعلنت عن استثمار بقيمة 1.2 مليار ريال على مدى 10 سنوات لدعم قطاع القهوة المحلي وتطوير البنية التحتية لهذا المجال. هذه الاستثمارات تهدف إلى خلق فرص جديدة للمزارعين، وتحقيق الأمن الغذائي، وتعزيز مكانة المملكة كمركز رئيسي لصناعة القهوة في المنطقة.
إلى جانب ذلك، يمكن أن يسهم استخدام التكنولوجيا والابتكار في تحسين إنتاج القهوة، مما يساعد في التغلب على التحديات التي تفرضها التغيرات المناخية. الاستثمار في هذا القطاع قد يفتح آفاقا جديدة للتنمية الاقتصادية، خاصة في المناطق الريفية التي تعتمد على الإنتاج الزراعي كمصدر رئيسي للدخل.
إلى أين تتجه الأسعار؟
تشير التوقعات إلى أن أسعار القهوة ستظل مرتفعة حتى عام 2026، مع احتمالية وصول سعر الطن إلى 425.69 دولارا خلال الأشهر القادمة. هذا الارتفاع لا يرجع فقط إلى نقص الإمدادات، بل يتأثر أيضا بالعوامل الجيوسياسية، مثل الرسوم الجمركية التي قد تفرضها الإدارة الأميركية الجديدة، والتغيرات في أسعار النفط، والتي تؤثر بشكل مباشر على تكاليف الشحن.
برغم التحديات، ما تزال القهوة تحتفظ بمكانتها كأحد أكثر المشروبات استهلاكا في العالم، مما يعني أن الطلب عليها سيبقى مرتفعا، حتى لو اضطر المستهلكون إلى البحث عن بدائل مؤقتة. في النهاية، ستظل العوامل المناخية، والسياسات الاقتصادية، والتطورات التكنولوجية هي المحدد الرئيسي لمستقبل سوق القهوة، سواء على مستوى الإنتاج أو الأسعار.
الغد