لم يتردّد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في محاولة إبعاد بلاده عن معسكر المهزومين في إسقاط نظام بشار الأسد في سورية، معتبراً، في مؤتمره الصحافي السنوي، أول من أمس الخميس، أن "ثمّة من يحاول تصوير ما حدث في سورية هزيمة لروسيا. أؤكد لكم أن الأمر ليس كذلك". يطرح موقف بوتين ثلاث سرديات جوهرية، بدءاً من احتمال تواطؤ روسيا في موضوع إسقاط حليفها، الذي أُوحيَ وكأنه الأهمّ لها في شرق المتوسط، بحجّة نيلها مكاسب في حقبة فاتحي دمشق. سردية أخرى يُمكن وضعها في سياق المساعي الروسية لطيّ صفحة الأسد، والتفاهم مع السلطات الجديدة في سورية. أما السردية الأخيرة فمتعلقةٌ حقاً بهزيمة روسيا في سورية، وارتباكها في كيفية التصرف بشأن قواعدها هناك، سواء بنقلهم إلى ليبيا أو بإعادتهم إلى موسكو.
في السردية الأولى، فإن تواطؤاً روسياً مع حلفاء دوليين وإقليميين على إسقاط الأسد يعني أن أرباحها في مواقع أخرى في العالم "مضمونة". وهو ما ليس واضحاً حالياً، خصوصاً أنه في حال قبول روسيا إسقاط الأسد، يعني، في مكان ما، أنها قابلة للتبدّل مع حلفاء آخرين، مثل إيران وكوريا الشمالية، ولم لا حتى الصين. في السردية الثانية، فإن ترداد وسائل الإعلام والمعلقين والسياسيين في روسيا، مقولة أن "جيش الأسد لم يشأ القتال، بالتالي، فإن روسيا لن تقدّم المساعدة"، مجرّد تبرير لا أكثر، على اعتبار أن ذلك يعني فعلياً نسف التدخّل الروسي في سورية بالأساس في سبتمبر/ أيلول 2015. في حينه، كانت الحكاية الروسية تتمحور حول وجوب محاربة الجهاديين في سورية، كي لا يصلوا إلى روسيا". وبعد تسع سنوات، وصل "حكم جهادي" إلى السلطة في سورية، وفق أدبيات كثيرين، شرقاً وغرباً. ... ماذا فعل بوتين؟ لا شيء، سوى التأكيد على التواصل مع السلطات الجديدة.
أما السردية الثالثة فتكمن في حقيقة خسارة روسيا بانهيار حكم بشّار الأسد. في الواقع، يبدو ذلك أقرب إلى الواقع، بفعل قرائن عدة، الأبرز فيها أن إنشاء قاعدة للاتحاد السوفييتي في ميناء طرطوس على الساحل السوري في عام 1971، كان بداية تفاهم عميق بين موسكو السوفييتية ـ الروسية ودمشق ـ الأسدية، مع الأب حافظ والابن بشار. واليوم، لم يعد واضحاً مصير هذه القواعد. وتالياً مصير الوجود البحري الروسي في البحر المتوسط. ومع أن مناطق نفوذ اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، تحديداً في بنغازي، تبقى خياراً روسياً، غير أن حفتر نفسه ليس كذلك، بل إنه ممسك بأوراقٍ غربية وعربية عديدة، بما يجعله مرناً أكثر في قراراته عما كان عليه الأسد، الذي كان محدوداً بين طهران وموسكو.
وإذا كانت السردية الثالثة الأكثر واقعية، فذلك يؤشّر إلى أن بوتين سيعمل على تركيز جهده على أوكرانيا، وهو أصلاً ما تطرّق إليه الكرملين في الأيام التي رافقت سقوط الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الحالي. ويعني ذلك أيضاً، بالنسبة للغرب، أن عدم قدرة بوتين على تركيز الموارد على أكثر من جبهة، فضلاً عن الاستعانة بعشرة آلاف جندي كوري شمالي على الأقل في حرب أوكرانيا، يؤكّد أن روسيا على مشارف 2025 أكثر ضعفاً عما كانت عليه في عام 2022، على وقع ثقل العقوبات الغربية عليها. ومع أن أوكرانيا ليست في أفضل حالٍ أيضاً، إلا أن خياراتها تبقى أكثر تشعّباً من روسيا. تكفي الإشارة إلى أن أهم ما تعاني منه كييف هو النقص في الجنود والسلاح، فيما تعاني موسكو من ذلك، وأيضاً من غضب صيني كامن بفعل الاستعانة بقوات كورية شمالية، ومن تراجع نفوذها في الشرق الأوسط. ما حصل في سورية هزيمة للروس، كما أفغانستان (1979 ـ 1989). باتت أوراق بوتين محدودة واحتمالات الخسارة والربح فيها متساوية مع اقتراب اللحظات المفصلية.