أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، الخميس المنصرم، مذكّرتيْ اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق في حكومته يوآف غالانت. وعلّلت قرارها ''بأن هناك أسبابا معقولة للاعتقاد بأنهما ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزّة''. ويبقى السؤال المطروح بحدة: كيف استطاعت المحكمة إصدار (أو بالأحرى تمرير) هذا القرار غير المسبوق في تاريخ العدالة الدولية؟
يقول المنطق إن المحكمة، التي تأسست سنة 2002، تظلُّ حلقة في النظام الدولي الذي تهيمن عليه الدول الغربية الكبرى، وتوجِّه آليات عمله القانونية والسياسية والتجارية والمالية بما يخدم مصالحها. يعني ذلك أن إصدارها قراراً يدين دولة الاحتلال، باعتبارها حليفة للولايات المتحدة، والغرب عموماً، كان من سابع المستحيلات، بعد أن أصبح الإفلات من العقاب غطاء دوليا تتمتع به للتنصل من مسؤوليتها عن حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، بالتوازي مع رفضها أي محاولة لوقف إطلاق النار. فما الذي حدث حتى تتّخذ هذا القرار؟
أحدثت الحرب على غزّة ارتجاجا عميقا في الرأي العام العالمي؛ فعلى الرغم من الجهود التي بذلتها وسائل الإعلام الغربية من أجل صياغة سردية إعلامية تُظهر العدوان على غزّة حربا تخوضها إسرائيل ''دفاعا عن النفس'' في مواجهة ''الهجوم الإرهابي'' الذي تعرّضت له في 7 أكتوبر (2023)، إلا أن الأعداد المهولة من الفلسطينيين الأبرياء الذين سقطوا منذ بداية الحرب غيّرت المعادلة، بعد أن أصبح هذا الرأي العام يتابع الفصول التراجيدية لهذه الحرب يومياً، فضلا عن مئات الفيديوهات التي تتناقلُها منصّات التواصل الاجتماعي في شتى أنحاء العالم، والتي توثق المجازر الإسرائيلية المُروّعة بحق الفلسطينيين. وفي وقتٍ كان يُتوقع فيه، ولو في الحد الأدنى، أن تتدخّل الدول الكبرى لوقف الحرب، وجدت "الجنائية الدولية" نفسها أمام أسئلة القانون والشرعية والمصداقية بشكلٍ قد يكون أحدث تصدّعاً (وهذا المرجّح) بين أروقتها، قبل التوافق على القرار بالإجماع، في ظل ضغوطٍ قد تكون مورست على القضاة، أو بعضهم، لمنع إصدار قرارٍ يدين دولة الاحتلال. كما أن ما سبق أن صرّح به بعض قادتها قدّم أدلةَ إدانة واضحةً. ومن ذلك ما صرّح به غالانت في بداية العدوان، حين قال: ''سنقطع الكهرباء والطعام عن غزّة (..) إننا نحارب حيوانات بشرية''، وما قاله أيضا وزير التراث عميحاي إلياهو، حين دعا إلى إلقاء قنبلة نووية على غزّة.
شكل منعطف غزّة اختباراً عسيراً لآليات العدالة الدولية، وفي مقدّمتها محكمتا العدل والجنائية الدوليتان، ما يعني أن القفز على الجرائم الإسرائيلية كان سيُدخل هذه العدالة في نفق مظلم، وسيكشف انحيازها السافر للغرب، وهو ما سينزع عنها المصداقية القانونية والأخلاقية، خاصة أن هناك نزاعات وحروبا في العالم تستدعي إصدار مذكّرات اعتقال في هذا الخصوص.
بيد أنه على الرغم من أهمية القرار، الذي يتمتّع بالقوة الإلزامية، إلا أن تنفيذه يبقى متوقّفا على تعاون الدول الأعضاء (الموقّعة على اتفاقية روما المحدِثة للمحكمة)، وتعزيز التزامها بمقتضيات القانون الدولي. ولا شك أن ذلك سيكون مُحرجاً، من الناحيتين الأخلاقية والسياسية، للدول الحليفة لإسرائيل. وإذا كانت الولايات المتحدة قد سارعت، فور صدور القرار، إلى انتقاده وتأكيد دعمها حق دولة الاحتلال في ''الدفاع عن نفسها''، فإن دولاً غربيةً أخرى تجد نفسها في موقفٍ حرج، بعد إخفاقها في ترهيب المحكمة والتأثير على سير أشغالها من خلف الكواليس.
ومع ذلك كله، يبقى القرار انتصاراً رمزياً وأخلاقياً للشعب الفلسطيني المظلوم. فقد كشف الوجه الاستعماري والاستيطاني لدولة الاحتلال أمام العالم، وحوّلها إلى دولة خارجة عن القانون. ولذلك ستكون هناك تبعات سياسية واقتصادية سيكون عليها أن تُجابهها في المستقبل، بصرف النظر عن مآلات الحرب، وأبرزها انتكاس سرديّتها الزائفة بشأن معاداة السامية، وتزايد احتمالات عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي قد يشهده المجتمع الإسرائيلي، وارتفاع معدّلات الهجرة منها صوب بلدان أخرى، واتّساع قاعدة الحركة العالمية لمقاطعتها.