قرار محكمة الجنايات الدولية، اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، نصر معنوي وأخلاقي للقضية الفلسطينية، وإدانة عملية لإسرائيل. ويعدّ سابقة تاريخية إصدار مذكرة توقيف قيادات حليفة لواشنطن، بالأخص إسرائيل الحليف الأقرب والضروري في معركة انفراد الهيمنة الأميركية على العالم، فقد كان موقف واشنطن وما يزال متشدّدا في منع أي محاسبة قانونية لمسؤوليها وأفراد جيشها وحلفائها. وسنّت في عام 2002 قانون "حماية أفراد الخدمة الأميركية"، لتحصين نفسها وحلفائها من الملاحقة القانونية، في حال ارتكابها جرائم حرب، لتبرئتها مسبقا من مثل هذه الخروق الجسيمة. ويتيح لها القانون، المسمّى بشكل غير رسمي "قانون غزو لاهاي"، اتخاذ عقوبات ضد الدول التي تلاحق قياداتها وطواقمها العسكرية.
لم تكن واشنطن تتوقع، قبل "طوفان الأقصى" وحرب الإبادة الصهيونية ضد الفلسطينيين، أن ينتصر الملايين لقضية فلسطين، وأن ينضم مثقفون ونجوم كبار في أميركا والغرب في حلقة واحدة لإدانة إسرائيل بكلماتٍ لم تكن تصدر عنهم في السابق. والحكومة الأميركية لا تفهم، وربما لا تريد أن تفهم، جاذبية القضايا العادلة لمن يؤمن بالحرية، ولا تهتم بالتعاطف الإنساني العالمي مع شعبٍ محاصر يُقتل بالأسلحة الأميركية وبالتجويع ومنع الإغاثة الطبية، فالمشاهد المُفزعة من غزّة لا تعني صنّاع القرار إلا بقدر مساهمتها بعزل إسرائيل وأميركا، على الأقل في الآمم المتحدة. وقد وصل الأمر إلى تحدٍّ غير مسبوق من مفوّض الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن على الدول الأوروبية الأعضاء الالتزام بقرار المحكمة الدولية، وحتى إذا لم تلتزم بعض الدول فموقف بوريل نفسه يعكس إدانة وتجريما لنتنياهو وحربه على الفلسطينيين.
لن تجلب مذكرتا اعتقال نتنياهو وغالانت بدون توقّف الحرب في غزّة العدالة للفلسطينيين، لكنهما إنجاز، وإنْ يصعب الاحتفاء بهما، ونحن نرى فداحة الخسائر البشرية الفلسطينية أمامنا
توهم واشنطن نفسها بأن ما تراه في العالم من تمرّد، ومن حركات طلابية بالجامعات الأميركية ليس فشلا سياسيا وإنما فشل نتنياهو التكتيكي إعلاميا وتسببه بإظهار بشاعة إجرام إسرائيل وازدرائها للرأي العالمي وتداعيات ذلك على الكيان، فالرئيس الأميركي، جو بايدن، كان يأمل بحربٍ أقلّ قبحاً؛ لذا كان يطالب بخفض وتيرة قتل الضحايا وعدم الإمعان في منع الأدوية والمساعدات، ووقف التصريحات الإسرائيلية التي تحرّض لإبادة الفلسطينيين، فالخلاف كان على إدارة الحرب، وليس على جوهر العملية الإسرائيلية. ولذا بدا أن إدارة بايدن وافقت ضمناً على قرار المحكمة الدولية باتهام نتنياهو وغالانت، بشبهة ارتكاب جرائم حرب، وتوجيه الاتهام إلى إسماعيل هنية ويحيى السنوار اللذيْن اغتالتهما إسرائيل لاحقا، ومحمد الضيف، غير المعروف إذا كان حيّاً أو ميتاً. وبالنسبة لواشنطن، نتنياهو ووزراؤه هم المشكلة، أما سياسات إسرائيل وممارساتها العنصرية والكولونيالية فتدعمها وتخدم أهدافها في المنطقة والعالم. أي أن نتنياهو أصبح عبئاً على واشنطن، وحتى إن بعض كبار الصهاينة الأميركيين، مثل حاييم بيان، يعتبرونه خطراً على إسرائيل نفسها واستراتيجية أميركا في المنطقة، فأداء نتنياهو في حملته الشرسة في تدمير الفلسطينيين، وحتى قرار المحكمة الأول لم يردعه، فهو يفهم أن واشنطن لا تتناقض جوهريا مع أهدافه، وهو ليس معنياً أن يصل الأمر إلى أن تجد واشنطن نفسها وحيدة في مجلس الأمن، حيث اضطرّت لاستخدام حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار لوقف الحرب في غزّة، حين لم يتفق معها أيٌّ من أعضاء المجلس. إذ يؤمن نتنياهو بالقوة، والقوة فقط، وأميركا تحكم بالقوة، ولا تأبه أصلا للقانون الدولي والمؤسّسات الحقوقية الأممية. ولكن قرار إصدار مذكرة بتوقيفه سيقيد حركته، ويخيف كل قيادات الجيش الإسرائيلي وأفراده، ومن الأرجح أن يتجنّب نتنياهو زيارة معظم الدول الـ124 الموقّعة على اتفاقية روما لمحكمة الجنايات الدولية، تجنّباً لدعاوى قضائية قد يرفعها أي طرفٍ لتنفيذ أمر اعتقاله، ومن غير الموقعين عليها أميركا وأذربيجان وروسيا والسعودية والإمارات وغيرها، ومصر لم تصادق عليها بعد. فاذا كان غرضه "إنجاز نقاط معينة"، كالمشاركة في إطلاق برامج تطبيعية تظهر تقدّم عملية التطبيع أو توقيع معاهدة مع السعودية، وهذا هدفٌ رئيس للرئيس المنتخب دونالد ترامب، فليس الأمر سهل التحقق، ولكن ليس هناك عائق قانوني، إذا نجحت مساعي ترامب وجرى التوصل إلى اتفاقية مع الرياض.
يستطيع الفلسطينيون البناء على مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت باعتبارهما دفعاً لنشاطهم وللحركات المتضامنة
لن تجلب مذكرتا اعتقال نتنياهو وغالانت بدون توقّف الحرب في غزّة العدالة للفلسطينيين، لكنهما إنجاز، وإنْ يصعب الاحتفاء بهما، ونحن نرى فداحة الخسائر البشرية الفلسطينية أمامنا، ونرى انصياع الدول العربية لأميركا، ولا نرى مؤشراً لوقف الأخيرة دعمها إسرائيل، فالدولة الصهيونية أداة وجبهة متقدّمة لحماية المصالح الاستعمارية الأميركية.
لا نستطيع التقليل من أهمية مذكرتي الاعتقال، ورغم أن قرار محكمة الجنايات الدولية ساوى بين حركة حماس وإسرائيل، لكن الفرق أن "حماس" حركة مقاومة، وضحّت قياداتها في المعركة داخل فلسطين وخارجها. ويستطيع الفلسطينيون البناء على مذكرتي الاعتقال باعتبارهما دفعا لنشاطهم وللحركات المتضامنة، بما في ذلك رفع الدعاوى وتنظيم مظاهرات مطالبة بتنفيذ قرار المحكمة الدولية، والأهم أن نبقى سائرين في مواجهة التطبيع والمقاطعة وعدم الخوف المبالغ به من مرحلة ترامب الذي سيدخل في معركة شرسة مع قرارات المحكمة، وقد يهدد الدول، بما فيها الأردن، إذا رفضت استقبال نتنياهو.. فأولويته عدم جعلها سابقة تمهّد لعقاب أفراد الجيش الأميركي، وليس إنقاذاً لنتنياهو بالضرورة.
لنتذكّر أن إدارة بايدن شكلت اصطفافاً لفريق صهيوني العقيدة، ودخلت التاريخ بوصفها الإدارة التي شاركت وساهمت في أول حرب إبادة في القرن الحالي. وفريق ترامب يمين متطرّف ومتحالف مع حكومة يمينية متطرّفة في إسرائيل، أي معظم من رشّحهم لإدارة سياسة أميركا الداخلية والخارجية من الفاشيين، لكن ذلك ليس مدعاة لليأس، شلال الدم الفلسطيني واللبناني وضحايا القصف الإسرائيلي لسورية، يحتّم علينا الاعتراف بالإنجاز بشرط البناء عليه.